Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
أ

مدة القراءة: دقيقة واحدة

التوقيع " قصة قصيرة "

كان يذهب إلى عمله يوميا في الوقت المحدد ، في تمام السابعة والنصف يكتب اسمه بخط متعرج وبجانبه توقيعه المُضحك .

لم يكن ذهابه إلى العمل بهذا التوقيت الثابت يعني أنه موظف نشيط وذو جد واجتهاد ، بل على العكس ، كان يقول " إن حياتي كلها عبارة عن روتين ممل ، وأما العمل فهو أقل الأشياء روتينية " . لذلك كان عمله مجرد روتين ينجزه.

لم يفكر مديره يوما بإعطائه شهادة شكر وتقدير بل وحتى لم يثن عليه منذ أول سنة عمل فيها . كان يفكر " ألأنني لم أتزلفه يوماً كما يفعل عادةً الموظفون ، أم لأني أفعل ماهو مطلوب مني من غير زيادة".

والحقيقة أن مديره كان قد اكتشف منذ أول سنة رآه فيها ، أنه رجل جامد لا تحفزه الشهادات ولا الثناءات ، كان يفعل المطلوب منه وحسب ، "فلماذا أشغل نفسي بتكريمه أو تحفيزه". كان مديره يردد هذا في نفسه وهو ينظر إليه عند دفتر التوقيع يخط بجانب اسمه المتعرج خطين متوازيين وفي أعلاهما نقطه ليذهب بعدها إلى مكتبه .

بعكس حياته في العالم الواقعي ، كان في العالم الافتراضي - أعني تويتر بالذات- أكثر فعاليةً ونشاطا . يغرد يوميا عن كل شيء ، عن الكتب التي قرأها ، عن سطحية الاهتمامات الاجتماعية ، عن تفاهة مشاهير الإعلام . 

حتى إن أشخاصا كثرا قالوا له أنه في "تويتر" شخص آخر غير الذي هو عليه في الواقع ، مع أن هذه الملاحظة المتكررة كانت تغيضه إلا أنه كان يرد ببرود " كل إنسان في داخله عدة أشخاص" .

عادةً لا ينقطع عن تويتر إلا إذا كانت هناك أحداث سياسية . كان يكره التعليق على القضايا السياسية ليس لأنه جاهل فيها وحسب ، ولكن لأنه يرى أيضا أن السياسة قضية مثيرة للجدل ، وإن كَتَب عن السياسة فسيدخل وسط معمعة لا تنقطع ، وهو يفضل الحديث عن أمور لا تثير أحدا سوى نفسه  .

في أحد المرات القليلة التي يتحدث فيها واقعيا ، قال له زميله في العمل أن الدولة بدأت حربا ضارية ضد دولة معادية وباغية .  " منذ متى " سأل زميله . " يبدو أنك تعيش خارج المجتمع هذا حديث الأخبار ووسائل التواصل منذ أيام ، هل أنت ميّت أم حيّ ؟ ". رغم غضبه من هذا الرد إلا أنه اكتفى بالصمت، الرد الوحيد الذي يتقنه . 

لم يعجبه خبر هذه الحرب الدائرة ، ليس لأن له رأيٌ فيها ، ولكن لأنه سينقطع عن تويتر أياما أو تزيد ، حتى تهدأ هذه القضية ، ما يعني أن صمتا طويلا سيطال حياته الافتراضية ، والواقعية بالطبع .

استثمر فترة انقطاعه هذه بين الكتب ، كان يلتهم الكتاب تلو الآخر . " القراءة هي أفضل ما تم اختراعة من أجل الوقاية من التعاسة"  . كان يردد هذا في نفسه بعد أن قضى أياما لا يعرف فيها أحدا غير أغلفة الكتب  .

بعد أيام طرأ له أن يدخل تويتر ، وفي أول صفحة واجهه هاشتاق  #حرية_الصمت ، عادة لا يدخل ولا يكتب في الهاشتاقات المتصدرة ، لأنه يعلم أنها ما تصدرت إلا لأن العوام متواجدون ومتحفزون فيها  . لكن هذا العنوان جذبه، فهو عن الصمت ، ولأن الصمت من صميم شخصيته، دخل الهاشتاق . قرأ في أعلى الصفحة تغريدةً تقول " اعتقال عدة أشخاص فضلوا الصمت في الأحداث الدائرة "

ولأنه نسي ماهي الأحداث الدائرة  ، غرّد على عجل : " لا أطالب بحرية التعبير   ،  أنا فقط أطالب بـ#حرية_الصمت "

وجد تفاعلا قويا وغير مسبوق على تغريدته هذه ، "رتويت" لا يقف ، وردود بين مؤيدة ومعارضة .

تحمس للأمر .. لأول مرة في حياته يطالب بشيء ، لأول مرة يخرج عن طبيعته  .. لأول مرة يرى صدىً واسعا لكلماته . " لستُ إنسانا جامدا وميتاً كما يدعون ، هاأنا أطالب ، أرفض، هاهي كلماتي تثير جدلاً " فكر في هذا قبل أن يرى الساعة التي بلغت الثانية صباحا ولم ينم بعد .. 

في اليوم التالي ولأول مرة استيقظ متأخرا ، استيقظ في الساعة الثامنة . شعر بسعادة غامضة "هل يبدو الذهاب إلى العمل متأخرا نوعٌ من الثوريّة ؟! "..

كان قد سبقه إلى مقر عمله مجموعة أشخاص ، دخلوا على مديره الذي ارتبك حين رآهم . " عندك الموظف هذا؟ ".  قال رئيسهم هذا وأراه صورةً من هاتفه ".   "نعم عندي لكنه اليوم ولأول مرة لم يأت" .  ثم أضاف " خير إن شاء الله هل هناك أمر ؟"

" موظفك هذا يقف ضد وطنه ومع الدولة الباغية وحلفائها" . قال أحدهم هذا وسط ذهول المدير.  " يبدو أنكم مخطئون ، فهذا الموظف لا نكاد نسمع صوته " .

في هذه الأثناء دخل الموظف ، وبابتسامة لأول مرة تُرى عليه قال "عذرا على التأخير" واتجه إلى دفتر التوقيع .. كتب اسمه بخط مستقيم هذه المرة ، ثم توقف قليلا " سأغيّر توقيعي" قال في نفسه .

وبضربة مباغتة من الخلف سقط على الأرض ، وقُيّد .

لم يوقع هذا اليوم ، ولم يغيّر توقيعه إلى الأبد ..


هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين