تنمية القرى و "ابتلاع الأزمات"
"طموحنا سيبتلع مشاكل السكن والبطالة" هكذا أجاب محمد بن سلمان على سؤال تركي الدخيل حول أكثر مشكلات الشعب حضورًا، وموقعهما من رؤية السعودية 2030 التي تلقفها الشعب بالكثير من التفاؤل؛ ثقةً في القيادة وأملًا في المستقبل. وقد قدم الكثير من الاقتصاديين -قبل الرؤية وبعدها- حلولًا ومقترحات تستهدف إنهاء هاتين الأزمتين، أو "تقليص" معدلاتها، دفعًا لتنمية البلاد وسيرًا نحو حياة أفضل للمواطنين. والحديث عن حياة أفضل يقود للحديث عن الهجرة بحثًا عن تلك الغاية المنشودة، فالعوامل الاقتصادية تتصدر دوافع السكان لاتخاذ قرار الهجرة وترك الموطن الأصلي سواء كانت هجرة من الريف إلى المدن أو بين المدن نفسها. إذ تشير آخر إحصائية أوردها موقع مدينة الرياض والتي تعتبر قبلة الهجرة الداخلية في السعودية إلى أن 77% من المهاجرين إليها إنما يبحثون عن فرص للعمل، مشيرة إلى تراجع هذه النسبة في السنوات الأخيرة نتيجة للتنمية الداخلية التي شهدتها بقية المدن فحدّت من تسرب المواطنين ومع ذلك فلاتزال الهجرات نشطة نحو مراكز التنمية في البلاد.
إن محدودية الأسباب المؤثرة في الهجرة، لم تمنع الآثار اللامحدودة المؤثرة على المهاجرين وفي نواحٍ مختلفة، إذ تنعكس على حيواتهم الشخصية وتماسكهم الأسري والاجتماعي في محيطهم الذي خرجوا منه وتترك تأثيرها على شخصياتهم وسلوكياتهم؛ نتيجة النقلة إلى مجتمعات جديدة وصعوبة الاندماج فيها لاختلاف نمطها المعيشي عما كانوا عليه في مجتمعاتهم الأولى. وتأثير الهجرة ليس لازمًا للمهاجرين وإنما متعدٍ للهوية الحضارية للمناطق التي خرجوا منها خاصة إذا كانت عبارة عن قرى أو هجر تمتلك أبعادًا حضارية وتاريخًا جديرًا بالرعاية. فقد حذرت البروفيسورة الألمانية أولريكا فرايتاج من فقدان الهوية المحلية للقرى والمحافظات السعودية نتيجة توقعات أشارت لوصول نسبة سكان المدن في المملكة عام ٢٠٥٠م إلى 88٪؛ رابطةً إزالة البيوت القديمة بزوال الهوية، كما ربطت ضرورة المحافظة على الهوية الحضارية بالأهالي مقدمةً دورهم على دور المؤسسات الرسمية المتمثلة حاليًا في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في المقام الأول، كما يمكن إلحاق بعض المسؤوليات بهيئتي الثقافة والترفيه التي لم تحدد صلاحياتهما وأشكالهما بعد ولكن يتضح أن ثمة تداخل فيما بين الهيئات الثلاث! ولكن.. كيف للأهالي أن يستقروا ابتداءً في مكانٍ بلا مقومات، فضلًا عن المحافظة عليه؟
إن ضعف البنى التحتية في بعض المناطق السعودية وتعثر تنمية القرى والهجر وعدم العدالة في توزيع الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية حرك رغبة الكثيرين في الهجرة إلى المناطق الرئيسية الأكثر تنمية والأوفر فرصًا وظيفية والأكثر ملاءمةً للحياة وتلبية لمتطلباتها، بالتالي فإن هذا التعثر خلق لدى المواطنين حالة من عدم الرضا ترتب عليها هجرة واسعة وفراغ سكاني في مناطق يقابلها تضخم في مناطق أخرى، وهذا يشكل بدوره مولّدًا لمشكلات كالسكن والبطالة وارتفاع معدلات الجريمة وماذكر سابقًا من ضياع للهوية التاريخية والحضارية ولك أن تحصي ماشئت من المشكلات الناجمة عن التغيير الديموغرافي.
تنمية القرى لم تكنْ ترفًا يومًا، والآن أعتقد أنها ضرورة أكثر إلحاحًا؛ فهي حاجزٌ أمام تسرب الأهالي ومسبب للحد من هجراتهم، ومن الممكن أن تساهم في استحداث هجرات عكسية من المدن الرئيسية إليها الأمر الذي سيحقق توازنًا سكانيًا. فضلًا عن أنها ستقلل من نقمة المواطنين والمواطنات المعينون في مناطق بعيدة عن مناطقهم الأصلية كما هو الحال في تعيينات وزارة التعليم مثلًا. كذلك تنمية القرى وتنشيط الاستثمار فيها ونقل المصانع التابعة للشركات الكبرى التي لاترتبط بشكل مباشر بخدمة المواطنين كما أشار بذلك أحد المتخصصين سيتبعه بالضرورة وجود مساكن للعمال ومستشفيات ومدارس ومرافق ترفيهية وخدمية متنوعة، مايعني استحداث فرص وظيفية. كما أن تنميتها سيجذب مزيدًا من الانتباه إلى إرثها التاريخي والحضاري وضرورة المحافظة عليه واستثماره، الأمر الذي يدعم مانصت عليه الرؤية السعودية من رفع عدد المواقع الأثرية المسجلة في اليونيسكو. كما تخدم بند تطوير المدن وتعزيز الأمان عبر خفض معدلات الجريمة والأهم من ذلك كله أن تنمية القرى المتعثرة ستساهم بشكل مباشر في "ابتلاع أزمتي السكن والبطالة".
يقينية في الحب متسائلة فيما عدا ذلك | الحساب ليس للفائدة