Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
ن

طالبة ، طب الاسكندرية

مدة القراءة: دقيقة واحدة

معًا ؟ - قصة قصيرة-.



" ثم ضحك بشدة متذكرًا ذلك اليوم الذي قررا فيه الذهاب لإحدى المحميات الطبيعية ، تلك الأماكن النائية التى يمكنك أن ترى فيها السماء كما يجب أن تكون . قبةٌ سماويةٌ حقيقة ، بعد أن تعبت عيناك من غيوم المدن و تلوثها الضوئي الذي لا يجعلك حتى ترى البدر ليلة تمامه .

تجربةٌ مثيرة خاضاها سَوِيًّا . ليلتين في صحراء معزولة عن العالم المتطور -المزعوم- . تذكر كيف كانا يحافظا علي الماء بدرجة لم يفعلوها مع راتبيهما الضئيل .

و بذكر ذلك الراتب تلاشت ضحكته فجأة ، فاعتدل في جلسته و أشاح ببصره بعيدًا عنها ثم شبك أصابعه سَوِيًّا و استجمع قواه لينظر إليها .

و كما توقع أن يراها ، معتدلةٌ مثله في جلستها ، و قد عقدت ساعديها أمام صدرها . تلاقت عيناهما فقالت : " قل ما عندك يا عزيزي ، ماذا هناك ؟ " .

شعر بالبرد فجأة ! . أعد نفسه كثيرًا لهذا الحديث و لكنه يجفل أمامها . لا خوفًا منها بل خوفًا عليها من كلامه . يقسم في نفسه أنّه لو حدثها بأمر عقده النية علي الزواج بأخرى لكان أسهل عليه من ذلك الأمر .

تنهد ، و استجمع قواه مرة أخري و قال أخيرًا : " عديني أن تتقبلي قولي بهدوء و امنحيه فرصةً لتتم مناقشته " .

أومأت برأسها أي أعدك .

فقال " حسنٌ ، جاءتني فرصةٌ مناسبةٌ للسفر للخارج .. " .توقف عن الكلام و نظر إلي عينيها . ثانية ، ثانيتين ، ثلاث ... عشر ثوان يحدق في عينيها إلي أن تنهدت و قالت بهدوء : " أكمل ، أخبرني بالتفاصيل ! " .

أخبرها بكل شئٍ ، متى وجدها و كيف ، أخبرها بظروف العمل هناك و أسهب في ذكر مميزات تلك البلدة غير البعيدة ، أخبرها بكل شئ و هو يعلم أنها لا تسمعه ! .

يعلم جيدًا كم تكره ذكر السفر ، و يذكر جيدًا عهده لها في بداية زواجهما حين تحدثا في هذا الموضوع .

شعر بإضطرابها فتوقف عن الكلام و قام من مكانه ليجلس بجوارها ، ضمها إليه بهدوء ، قبل رأسها و ربت علي ظهرها قائلا بهدوء : " أعلم أنكِ لا تُحبين هذا الأمر ، و أعلم أننا تعاهدنا أن يكون السفر هو خيارنا الأخير في العيش ، و أنتِ تعلمين جيدًا أننا استنفذنا كل شئ يمكننا فعله . لم يبقْ سوى أن نعمل أربع و عشرين ساعةً في اليوم الواحد حتى نحظي بحياة كريمة ، حياة كريمة ماديًا نضحي من أجلها بأرواحنا ، أجسادٌ و أرواحٌ استنفذها العمل فلا تتلاقي إلا لمامًا ، فأي حياة هذه ، حبيبتي ! "

صمت مانحًا لها لحظات تهدأ فيها نفسها . أحس بأنفاسها المتسارعة تهدأ شيئا فشيئًا فرفع وجهها بكفيه لتتلاقي عيناهما قائلا : " حدثيني بما بكِ " .

قامت من مكانها ، تجولت في الغرفة ثم اتجهت عيناها لإحدي رفوف مكتبتها الصغيرة ، ذلك الرف الذي يحمل صور أسرتها ؛ توقفت عيناها لحظات علي صورة منهم فترقرقت في عينيها دمعة مسحتها مسرعة ثم قالت : " متى تتجهز للرحيل أنت أيضًا ؟ "

جفل لبرهة من سؤالها ثم وقف قائلا : " تعلمين جيدًا أني لن أرحل دونك. و ليس هذا ما انتظرت سماعه منكِ "

قالت و قد غلبها الضعف : " و لكنّك تعلم جيدًا رأيي في هذا الموضوع من قبل "

رد قائلا : " نعم أعلم ؛ و لذلك طلبت منك فرصةً للنقاش " .

نعم هو يعلم جيدًا لما تكره السفر ، لم تنبع كراهيتها من حبها لبلدها أو ولائها اللامنتهي ، هي بالفعل تحب بلدها ، و لكنها تكره الغربة و التفرق . فقدت أحبائها في السفر ، و ذاقت ذلك الإحساس البشع بالفراق المؤقت المخادع ؛ فهو لم يكن أبدًا مؤقتا . فالفراق هو الفراق و إن كان ساعة واحدة .

يعلم أيضًا عن تلك المخاوف التى تنتابها ؛ ماذا لو تركتني وحدي و سافرت ؟ ، ماذا عن أبنائنا؟ من هم ؟ أين سينشأوا ؟ هل يمكننا أن نربي طفلا ليصبح مسلمًا حقًّا في بلد غير مسلم ؟ ماذا عن مدارسهم و أصدقائهم ؟

و جذورهم ؟ هل سنقتصها من هنا للأبد ؟ أم بشكل مؤقت خادع أيضًا !

هو يعلم جيدًا بكل دوامات الأسئلة تلك التى تعصف بعقلها ، كم يودُ لو أمكنه أن يرسل نسيمًا رقيقًا في عقلها كي تهدأ عاصفته في هذا الأمر كما أمكنه في غيره . لا يمكنه ذلك . إنه يؤمن أنها محقة في أفكارها العاصفة تلك .

أعاده صوتها الدافئ لغرفتهما مرة أخري قائلة : " هل يمكنك أن تطمئنني ؟ " .

اقترب منها قائلا : " لو قلتِ لا ، فوالله لا تمس قدماي بلدًا لستِ فيها أبدًا ما حييت "

ضحكت ، فضحك . جميلةٌ هى ضحكتها حين تأمن خوفًا أقلقها قبلا ، جميلةٌ هي دومًا . جميلةٌ هي جنته في تلك الدنيا .

" أخبرتك عزيزتي أنها فرصة مناسبة ، بلدٌ مسلم عربي ، و أهله كأهلنا ، كبلدنا هذه و لا فرق سوى أنه يرحب بِنَا . دعوت الله كثيرًا أن يلهمني الصواب قبل أن أحدثك في هذا . أتعلمين ، و كأن الله لم يرزقنا أطفالًا حتى الآن حتى نستقر في مكانٍ يمكننا من تنشئة ذرية صالحة كما تعاهدنا قبلا . و كأن الله شعر بما يختلج في قلبينا من وهنٍ من هذه البلدة الظالم أهلها . و كأن الله أراد أن يبدل مكان السيئة الحسنة حتى يبلونا فيما عاهدناه ؛ أنفي به أم ننقض ! "

أجابته قائلة : " ربما هو ذلك ، أنجدد عهدنا سَوِيًّا ؟ " .

ضمها إليه هامسًا : " نعم ، و سنفي به سَوِيًّا أيضا، أينما كنّا " .

انتهت .


ن

طالبة ، طب الاسكندرية

المزيد من الكاتب

هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين