تدوينة قديمة
*تدوينة قديمة خليط من نقاشاتي مع أستاذي بالجامعة والأصدقاء والصديقات وجحيم يومي أعيشه كامرأة سعودية*
كثيرا ماتصطدم مطالب التغيير بحجة عدم الجاهزية وضعف استعداد أعضاؤها لقبول التغيير، الأمر الذي يترتب عليه تأخر المجتمع وإعاقة نموه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. السؤال هنا: متى يستعد المجتمع؟
يرى هربرت ليونبرجر أن أي تحول اجتماعي لابد أن يمر بمراحل قبل أن يأخذ مكانه كجزء من بنية المجتمع أو ثقافته، هذه المراحل تبدأ بالإحساس والسماع بالموضوع الجديد ثم الاهتمام وتجميع المعلومات تمهيدا لمرحلة التقييم التي تمهد بدورها للمحاولة واختبار الفكرة الجديدة لتأتي في النهاية مرحلة التبني والتسليم بهذا التحول وقبوله كجزء من النظام الاجتماعي السائد. وقد استبدل بعض الاجتماعيين مرحلتي الإحساس والاهتمام بالرفض والمقاومة، ففي كل الأحوال تبرز حالة من القلق والحذر في التعامل مع المشهد الجديد. مايعني أن المجتمعات لاتستعد ولايوجد مؤشر يقاس به الاستعداد واكتمال الجاهزية؛ لأنها بطبيعتها في حالة استعداد مستمر, تستقبل ومن ثم تبدأ التفاعلات المختلفة من قِبل أعضائها وفق المراحل السابقة. إذن مايحدث من تعطيل للحقوق الأصيلة والقرارات الكفيلة بتحسين المستوى المعيشي للمواطنين انتظارًا لاكتمال استعداد المجتمع ليس إلا حجة فضفاضة تتحمل وزر التأخير الحاصل وتجد قبولًا لدى فئة ترى في تويتر وحدة لقياس الرأي العام وتصورًا للمجتمع الكبير الذي غالبًا مايكون أقل حدة بكثير من جدليات مواقع التواصل وصراعاتها اليومية واستفتاءاتها الاعتباطية. أقول ذلك لأني كثيرًا ماأطرح على الأصدقاء سؤال: ماهي المؤشرات التي يمكن بها قياس جاهزية المجتمع؟ أسألهم بحثًا عن إجابة حقيقية قادرة على إقناعي بمسؤوليتنا عن التغير الذي تريده الحكومة المتنورة ونرفضه نحن الرجعيون، أسألهم ومن بينهم الأكاديمي والمثقف والحقوقي. كنت أسألهم ولاأجد إجابة أكثر من الاستشهاد بتغريدات طائشة أو استفتاء شارك فيه الآلاف عبر تويتر. إلى أن ظهرت السيدة أماني العجلان في برنامج شباب توك على قناة DW وقدمت الدين والقبيلة والمنطقة الجغرافية كمؤشرات للجاهزية. حقيقة واااااااو!
أن تُقابل التحولات بالرفض فذاك أمر طبيعي، فميل بعض المجتمعات إلى الثبات وارتكانها للعادات والأعراف وتقديسها لمسألة الخصوصية وخشية المنتفعين من خسارة امتيازاتهم المكتسبة من هذا التأخر من أهم عوائق التغيرات الاجتماعية، هذه الفئات تدرك عدم صحية الوضع الحالي ولكنها منتفعة من هذا الخلل. ولكن ثمة فئات وصل بها الرفض إلى غياب الوعي بجدوى التغيير وتجاوز ذلك للتطبيع مع الحالة الاستبدادية أو ماعبر عنه مصطفى حجازي بالتماهي مع المتسلط؛ إذ يسعى الفرد من خلاله "لحل مأزقه الوجودي والتخفف من انعدام الشعور بالأمن والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ".
في المجتمع السعودي تبدو قضايا المرأة عمومًا وقيادتها للسيارة على وجه التحديد، المثال الصارخ على رفض التحولات بدعوى عدم الجاهزية وهي وجهة نظر رسمية تتبناها الدولة في خطابها، فثقافة المجتمع هي المسؤولة عن الرفض، بل إن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير استرجع في أحد تصريحاته حول الموضوع مسيرة القيادة في التسعينات التي شاركت فيها مجموعة من السعوديات وذكر بأن ردة الفعل "العنيفة" صدرت من المجتمع وليس من الحكومة! رغم أن أقصى الجزاءات الاجتماعية وأقساها يتمثل في الوصم والاستهجان. أما التحقيق أمام الجهات الرسمية والإيقاف عن مزاولة العمل والمنع من السفر والسجن والإحالة للمحاكم فليست من اختصاص المجتمع بطبيعة الحال!
يشكل المجتمع بثقافته وعاداته وخصوصيته أحد أهم عوائق التغير الاجتماعي، ولكن في المقابل يأتي العامل السياسي كأحد أهم العوامل المحركة للمجتمع والدافعة به نحو التغيير، فالقرار السياسي قادر على حسم الصراعات الدائرة بإقرار التحول متزامنًا مع سنّ قوانين لحماية المستفيدين وحفظ حق المعارضين بالمعارضة مادامت لم تتجاوز الرأي. المعارضة بالنهاية إشارة صحية. بالتالي فإن مسؤولية المجتمع في حقيقتها هي مسؤولية السياسي الذي لم ينجح في إعداد هذا المجتمع وضبطه.
أسوأ أشكال المعارضات لتحسين أوضاع المرأة السعودية -وإن كانت معارضة تدور في فلك الرأي غير المؤثر أصلًا في القرار- أن تقتنع المرأة نفسها بنظرية "الملكة" التي تضمر مفهوم "عدم الكفاءة ونقص الأهلية"؛ استمرأت الضعف واستحسنته حتى غاب عنها الشعور بالمشكلة. تبنت السردية الاستبدادية بكل مكوناتها السياسية والدينية والاجتماعية، فعضد كل مكون منهم الآخر في ذهنيتها مما عزز استلابها وزاد من يقينها بأن هذا الخلل ليس إلا وضعها الطبيعي وقدرها الذي خُلقَت له. فحتى إذا تغيّر أحد تلك المكونات وتراجع استبداده، ظلت أسيرة سطوة الآخر.. برضاها. وهنا أستحضر مسألة الولاية وهي القضية الأكثر حضورًا في المشهد السعودي مؤخرًا. تفرض الأنظمة على المرأة موافقة الولي في كافة شؤونها كالدراسة والوظيفة والسفر والتقاضي وإصدار البطاقات التعريفية والابتعاث والعلاج، الأمر الذي يشكل عائقًا للنساء خاصة ممن ابتلينَ "بأولياء" متشددين دينيًا أو اجتماعيًا يتلاعبون بمصائر النساء تحت ولايتهنّ، فيحرمن من حقهن في الاستقلال وتقرير المصير. حتى مقولات "الحرية ممارسة يومية" و "الحقوق تُنال بالممارسة" تتهاوى أمام نظام الولاية، فلا يمكن لأي حق أن ينال دون موافقة ولي الأمر، وحين الشكوى من تعنت الولي وسفهه، تنتقل الولاية إلى القضاة، مايعني حقيقةً "تحسين شروط العبودية". فالمشكلة لاتزال قائمة والمرأة غير قادرة على الحركة دون ولي. وثمة قاضيان في النار، إذن فالأمر يتطلب الكثير من الحظ ليكون الولي البديل قاضي الجنة!
وسط كل هذه الفوضى التي تنهش كبد السعوديات وبالعودة إلى المؤمنات بنظرية الملكة، تظهر سيدات لم يسبق أن تفاوضن مع وليّ ليحصلن على أبسط حقوقهن؛ فقد تهيأت لهن ظروف اجتماعية واقتصادية مكنتهن من تجاوز المعاناة، وتجاهل معاناة الكثيرات الأمر الذي جعلها تستشهد بوليها المنفتح الواعي المتفهم لتبرر من خلاله وجود النظام ومشروعية بقائه. بين فتاة رفض وليها استلامها من دار الرعاية بعد انقضاء محكوميتها وأخرى طُلقت من زوجها لعدم تكافؤ النسب تظهر سيدة ترمي المطالِبات بإسقاط الولاية بالسفه والجهل وتتجاوز ذلك إلى الطعن في أخلاقهن وتربيتهن بحجة أن "الرجل سند" و "المرأة ضعيفة وهي دائمًا بحاجة إلى من يحميها" عاجزة بحججها تلك عن التحرر من البنية الاستبدادية التي تلقفتها كجزء من ثقافة سائدة قادرة على سوق آلاف الاستشهادات لتبرير قمع النساء والتشكيك في أهليتهن. في مسألة الولاية أيضًا تبرز قيمة العامل السياسي ليقول الكلمة الفصل ويضع حدًا لهذا التعسف غير المبرر ويتخذ من النشاط الحقوقي الجاري في مواقع التواصل الاجتماعي محركًا للتغيير ومؤشرًا لضرورة السرعة في تعديل الأنظمة بما يحقق كمال أهلية النساء بدلًا من اعتبار صراعات تلك المواقع نموذجًا لعدم جاهزية المجتمع وشاهدًا يعلّق عليه تعطيل الحقوق وإخفاق التحولات الكبرى.
يقينية في الحب متسائلة فيما عدا ذلك | الحساب ليس للفائدة