Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
م
محمد سعد ..

عما قريب ..

مدة القراءة: دقيقة واحدة

قصة ألف !

    يكمن في الخط المستقيم على شكل الألف جل الحياة، عاكساً كل المعالم والأثار، الطريق والمسار، البداية والنهاية، الأنطلاق ثم السقوط. ولكن ماذا عن الألف في جوف النفس؟ 

     لا أذكر أني تجرأت على ملامسة حده الحرف، وقسوة غياب الكلم، وروعة الإلهام، مرت السنوات الطوال، وأنا الجاثية على الطريق الطويل، بلا نهاية، هكذا كانت تتمثل الأمال أمامي، إلى أن أرتطمتُ  بالمنحى الفولاذي، الذي غير مسار الحياة . 

       بعيداً عن الألف، والتي لم يكن حياتي مثله أبداً، كأنها كانت تتبع الرياح، تاره في اليمن، وتاره في الشمال، هكذا أنها، تائهة في لب الحياة، واقفة أمام الرصيف، أنتظر القطار للذهاب، ولكن بلا ذهاب، بلا عودة، وقوف فقط.

        الثاني عشر من يوليو، حيث السماء كانت مبلدةً بالغيوم، والليل يعزف ألحانه الأخيرة، والظلام الدامس يداعب الخوف في عيون القطط الجائعة، كنت مستيقظة، على الفراش ربما، أخطط ليوم جديد، لم يأتي الصباح بعد، تأخر كثيراً هذه المرة، عادة يأتي بعد ذكرتين، ودمعتين، ولكن اليوم ربما أختلف ميزان الدمعة، فأختلف ميعاد الشروق، لم يزل هناك وقت، هيا أبكي، دعنا نذرف الدموع،

        توقفي يا أنا! من أنا يا ترى، أنا لا شيء في خضم الحياة، أنا طيف أنا إختفيت، كلا أنا باقية الوجود، جذوري شائكة في الحياة، لا يمكن أن أقتلع بهذه السرعة، بل أنا آنية السقوط، وصلت إلى نهاية الطريق، هيا أسقطي يا أنا، لم يحن الوقت بعد، بقي القليل القليل.

        قبل بزوغ خيوط الفجر الأول، يحين موعد الاستقياظ، يجب علي إعداد الفطور، الأبناء سيستيقظون بعد قليل، ماذا ستأكل إيلا في الصباح، لقد أشتكت من الفطائر يوم الأمس، وماذا عن ربيكا، كذلك تناهدت من الخبز المحمص، سأعد لهم اليوم طبقاً جديداً، ربما جبن الماعز مع الخبز الأسمر، يبدو صحياً وشهياً.

        تناولت هاتفي، اتفقد كومة الرسائل، رسالة من مدير التحرير يشتكي من قلة المقالات المنشورة خلال الفترة السابقة، حسناً يجب أن تكون موجوداً على الدوام يا عزيزي، حتى ترتفع الجودة، ويراك موظفي الصحيفة ويؤمنوا أنك ما زلت على قيد الحياة، الرد كالعادة "لا بد أن نجتمع".

    رسالة أخرى من نادية، ما زالت تؤمن بفكرة الاستقلال في أعمال حرة، إلى متى سنكافح في صحيفة لا تعلم هل ستكون باقية في السوق غداً أو ستختفي أدراج الرياح، حسناً٬ الرد كالعادة "لابد أن نجتمع:

    الدراسات تشير إلى أن ثلث حياة الإنسان يذهب في الاجتماعات واللقاءات، وأؤكد أن أكذب ما يقال في الاجتماعات، زوجي يقضي جل وقته في الاجتماعات، هكذا يقول! أتمنى أن تكون الحقيقة، ربما هناك اجتماعات مهمة للغاية بعد منتصف الليل، وقبل الفجر، لا أعلم.

    الماء يغلي، حان وقت قهوة الصباح، الأطفال على وشك القدوم، وضعت ثلاثة قطع من جبن الماغر، الخبز الأسمر في الفرن، ثلاثة صحون على طاولة الطعام.

    "صباح الخير يا أمي" ايلا بابتسامتها المعهودة تظهر،  طالما كانت الفتاة المهذبة، الهادئة الطباع، الحكيمة في القرارات، المهتمة في كلماتها، تحاول دائما أحترام الآخرين ولو على حسابها.  "هل الفطور جاهز؟" ربيكا بصوت غاضب، ومتشنجٌ  في الصباح الباكر، غاضبة كالعادة، ربما لم تنم جيداً.

- "أهلاً بكما، صُباح الخير طفلتاي، تبدؤان جميلتنان هذا الصباح، أعدت لكما فطوراً شهياً هذا الصباح" متصنعة السعادة والتفاؤل قلت، وفي داخلي ألف دمعة وحسرة، هيا يا طفلتاي، كلو فطوركما، وأخرجا بسلام من المنزل، قبل أن أفقد الأعصاب، وأذرف الدموع.

    لطالماً رأيت زوجي الإنسان الأمثل لحياتي، ولكن أين هو اليوم؟ هل قدم استقالة من مؤسستنا، وفي غفلة مني وقعت له على الاستقالة ثم رحل؟ كم تبدو الحياة سهلة التغير؟ كيف كنا بالأمس، وكيف أصبحنا اليوم، أتذكر جيداً السنة الأولى لزواجنا، كانت الحياة وقتها مثل زهرة اللوتس، جميلة المظهر، زكية الرائحة، لا تستطيع أن تشبع من النظر إليها، والاستنشاق من رائحتها، ثـم تغير الحال إلى أن لم يعد أحدنا يرغب في النظر إلى الآخر، في السنة الأولى، حينما أصيب زوجي بأنفلونزا حادة، كان قبل بزوغ الفجر، لم يكن قادراً على الرؤية، أو الكلام، سعال شديد أصابة، لم يكن قادراً على التنفس جيداً، ضاقت به الحياة، ضاقت جداً، وظن أنها النهاية، أنها الساعات الأخيرة، هرع إلي أخيراً، رمى نفسه بين أحضاني، حرارة وغزارة أنفاسه كانت تخرق صدري، يتناهد بجمل لم أفهم منه الكثير، كنت خائفة جداً، مثل طفلة ظنت أن لعبتها المفضلة ستؤخذ منها بقوة، وظلت تدافع عن نفسها بكل ما أوتيت، مما قاله وضل مغروساً في أعماق قلبي حتى اليوم "أحبكِ  كثيراً، لم أحب قط مثلك من قبل، أنتِ كنتِ  الحياة، والأمل، أنتبهي لنفسك جيداً، أبقي هنا، في منزلك، لا ترحلين من هناك، سأزورك كثيراً، أقسم لك أنكِ كنت الحياة، أقسم لكِ أنني لم ألمس فتاة غيركِ لا تحل لي، أحبك جداً" الحياة تتغير، أعترف بذلك، ولم لا تتغير، الذي كنت عليه قبل عشر سنوات، ليس بالضرورة أن أكون عليه اليوم، وإن كنت على ما أنا عليه قبل عشر سنوات، فهذا يعني أن عشر سنوات قد ضاع من عمري سدى، التغير قادم، سوى رضينا بذلك أم لا، ولكن يجب علينا أن نربط الحزام جيداً، فربما سرعة التغير كبيرة، وإن لم نكن على استعداد جيد، فربما نسقط من القطار، ونغرق في وحل الألم والحزن، كنت أتساءل نفسي دوماً، هل أنتهى بي المطاف إلى أن أنتاول الفطور مع طفلتاي يومياً وحيدة؟ هل يجب علي دوماً أن أمثل دور الأب والأم معاً؟ ماذا إذا ذهبت أنا أيضاً؟ طريق الرحيل يبدأ أيضاً من الألف،  فقط يجب عليك أن تضع الخطوة الأولى على الطريق،وما أن تفيق من النشوة، سترى نفسك على طريق النهاية، يبدو الأمر ممتعاً، ماذا إذا رحلت يوماً عن المنزل، لن أستيقظ كل صباح، وبالطبع سأنام الليل جيداً، ربما لن أقوم بتجهيز الإفطار يومياً للأطفال، ثم أستعد لأسمع تعليقاتهم الساخنة.

            الساعة تشير إلى الثامنة، يجب أن أستيقظ، التاسعة تماماً لابد أن أكون في مقر الصحيفة، الإثنين يوم مهم بالنسبة لنا، لأن جميع موظفي الصحيفة يحظون بتقيم عام عما كتبوه خلال الأسبوع.

        على الطريق المنحدر من الجادة الثانية، أسير بسيارتي الجيب، يبدو الطريق مزدحماً اليوم، والسماء تبدو صافية، على قناة الإذاعة الأولى يتحثون عن أكتشاف ناسا الأخير، يدّعون أنهم أكتشفوا أثار كائنات فضائية على سطح الأرض، العلماء يقدمون تفسيراتهم ودلائلهم التي تؤكد صحة الإكتشاف، سيقدم رئيس أمريكاً بياناً حول ذلك في تمام العاشرة صباحاً.  القناة الثانية يذيعون أغاني قديمة للفنان الراحل مايكل جاكسون، لم أحبه قط، أتساءل لماذا الناس يحبونه؟. القناة الثالثة، يقدمون البرنامج الصباحي، يستقبلون اتصلات المستمعين ليقولوا صباح الخير فقط، هنيئاً لهم الفراغ في حياتهم.

        أقف على إشارة الشارع الداخلي بناية الصحيفة على بعد بنايات، في اليمين الفندق الروسي المعرف بالركون، يعود الفندق إلى قرابة العقدين، بنايته تعود إلى الفن القديم، الرسوم الفرعونية المنحوتة تكسوا جدار الفندق، لا يسكن فيه إلا زوار السفارة الروسية، لأن لهم علاقة خاصة بالسفارة الروسية، لم أرى يوماً واحداً خلال الثلاث السنوات السابقة غرف شاغرة لديهم، دوماً كانت جميع الغرف محجوزة، هنياً لهم. على اليسار بناية شركة التأمين الجديدة، لم يمضي عليها قرابة الستة أشهر، المقهى الذي تحت البناية يقدم قهوة ممتازة، تجرعت منها عدة مرات، لا يوصف، ولا تستطيع التوقف عن رشفها صباحاً.  بجوار المقهى يجلس متسولاً، يبدو في منتصف العمر، ربما الخمس والعشرين عاماً، يرتدي قبعة سوداء على الرأس، يبدو ملابسه رثه، ربما لم يستحم منذ عدة أيام، بجواره لوحة كُتب عليها "أنا قادم من الأمام، أنظرو جيداً، أنتظرو جيدا" أنظر إلى عيونه، هناك سواد كبير تحت عينية، ربما ناجم عن حياته التعيسة التي يعيشها، رحمة الله به، عيناه تبدؤان شاحبتنان، كأنهما تحترقان منذ زمن، فجأة، يفتح عينية ليصبحا مثل حبات الزيتون، صار ينظر في عيني مباشرة، لم يعد ينظر بل يحدق فيهما بقوة، كأنها حصل على ما كان يبحث عنهما منذ مدة،  فجأة، يقف مثل سهم أنطلق من الرمح، بخطوات سريعة يقترب مني، مازال عيناه مسمرتان في عيني، لم لا يتركهما، يحدث ذلك بشكل سريع، أربع خطوات على وصوله لنافذة سيارتي، لم يلتفت إلى اليمين أو الشمال قط، لم يجفن، ثلاث خطوات، ماذا يريد مني يا ترى؟ للأسف لا أملك النقود، بقوة أسحب عيني لأرى الإشارة، لم تفتح بعد، ما زال هناك عدة دقائق، السيارة التي أمامي سائقها يتحدث بالهاتف، بصوت صارخ قرع المتسول نافذتي، لم يبق عليها الكثير لتنكسر، لا يزال ينظر إلى عيني، ماذا يريد؟ أتمنى أن تفتح الإشارة الآن وأهرب من هذا الخوف، أنظر إليه بنظرات الخوف والثقة، من قميصه الداخل أخرج مظروفاً، أحمر اللون، يريد أن يناولني أياه، لا أريد أي مظروف يا عزيزي، فقط أرحل وأتركني وشأني، ما زال يطرق على نافذة السيارة، هذه المرة بأقوى، أحدق في الإشارة، اللعنة! لم تفتح بعد، بضع ثواني فقط، وسأخرج من هذا الكابوس، هيا هيا، أرحل من هنا، أحدق فيه مرة أخرى، أعينه هذه المرة مليئة بالغضب، كأنهما تريدا الإنتقام مني، أنظر إلى وجهه مرة أخرى، ربما رأيته في الصحيفة، أو حتى في استراحة الحي، ملامحه جديدة علي، لا أتذكر أني رأيته أبداً، ولا حتى في التلفاز أو في الصحيفة، الإشارة لم تفتح بعد، فجأة أختفى الرجل، مثل شبح غادر المنطقة، بلا عودة، نظرت إلى الأمام وإلى الخلف، لا يوجد أحد، وكأن الأرض بلعته.

    توقف قلبي حينما سمعت شناعة صوت طرقته لنافذة السيارة من جهة اليمين، تباً لم يرحل، فقط أتى من الطرف الآخر، أنظر إليه وأعتذر، مدعيتة عدم إحتياجي للمظروف، ينظر إلي بقوة وبنظرات ثاقبة، يريدني أن أفتح له النافذة، أنظر إلى الإشارة، ثواني معدودة، الطرق يزداد، لن تتحمل النافذة المزيد، ماذا إذا فتحت الإشارة وهربت، وصار يلاحقني في الشارع، سأكون في مشكلة أكبر، وإذا علم بمكان عملي وأتى هناك، وقتها سأكون في صورة يرثى لها، حسناً سأفتح له النافذة بقدر ما يستطيع أن يسلمني فيه المظروف، فتحت النافذة، ناولني المظروف، وبسرعة الريح أختفى، لمست المظروف، أحمر اللون، بلا أي كتابة، مغلق بأحكام، تمعنت النظر فيه، ربما بداخله أوراق!

أبواق السيارات من الخلف تلعنني، هيا أرحلي، أنظر إلى الإشارة، خضراء هذه المرة، أمشي إلى الأمام، ركنت السيارة في الموقف، وضعت المظروف في حقيبتي، وصعدت إلى مكتبي.


--------------------------------------------------------------------------------------------------- ( ٢ ) ---------------------------


على ذاك الخريطة الممتدة، عادت جيوش المغول مرة أخرى، عادت من كل حدب وصوب، عادت حاملة في جوفها العديد من المغامرات والقصص، ربما لا يكفي المداد لحبكها، عادت الجيوش لتحرق الكنائيس، والأسواق، الناس في صمت عجيب، لا يرون أمامهم إلا الموت، ربما اليوم، أو غداً، أو بعد الغد كحدٍ أقصى. في حانة الدهينلي كنت أتجرع من النبيذ، يقولون نبيذ الدهينلي، من أجود أنواع النبيذ في البلدة، ولكنها لم تعد هكذا مع صومعة الحرب، لم النبيذ حلو المذاق كما كان قديماً، بل أصبح مراً، مصنوعاً من الفواكه العفنة، ربما ستنقطع خلال الفترة القادمة، لأن المزار ع أحرقت، وصار الناس لا يجدون ما يأكلون، الرحمة بالفقراء يا الله، جوعى، مرضى، حفاة، عراة، صار حِداهم الهم الأكبر، على ماذا يقيمون الحداد؟ على وفاة الأب؟ ثم الأم؟ ثم الأخ الكبير؟ ثم على حرق المزارع، صار الواحد منهم ينتظر الفاجعة، ليضيفها في قائمة الحداد. بكل قوته، يدفع الريهمي باب الحانة، كعادة، ثور هائج! صاحب الجسم الكبير، ربما يبلغ طوله قرابة عشرة أذرع، ما أن تراه تحسب نفسك في مأزق، بشعره الطويل الأشقر الذي لم يقصه منذ عام ربماً، وحاجبيه الآتان تحجبان الشرارة في أعينه، ودقنه الطويل، الشائك. يخطو الخطوات، ويبحث عن مكان مناسب لحجم مؤخرته، لا تتناسب الطاولات معه، في أحد المرات عندما لم يجد مكاناٍ مناسباً وجلس على كرسي الطاولة، كسرهاً، ثم دخل في عراك طويل مع الدهينلي، لم يسامحه، وحرمه النبيذ، اللعنة! لا يوجد مكان فارغ إلا بجواري، "أهلاً بالريهمي، كيف حالك، مضى وقت طويل على ملاقاتك" يحدق بعينية الغائبتين، يتأكد أني السيمتي، ببحة صوته المثقل "أهلا بالسيمتي، ما زلت حياً، حسبت في أعداد الموتى" 

"أرذل أنذل، عابث خنابث، حمير ناسف، قذر نجس، درن طفس، تفل دنس، لئيم ذميم ذنيم" لماذا يعيش بيننا؟ ويأكل من طعامنا؟ ويشرب من شرابنا؟ ويستنشق من هوائنا؟ ويتلذذ من لذائنا؟ الريهمي، سقط سقطة دوية، سمع صداها في كل حدب وصوب، في جوف الأنفاس، وفي جلسات المقاهي، وعلى الألسنة الجارحة، وعلى قارعة الطريق، وفي الرصيف، وفي البيوت، وفي نفسه القاتمة، سقط سقطعة من هولها لم يستطع القيام منها مرة أخرى، لم يقم، ولن يقم، وإن قام سيقوم قومة كالب، عابس، خانق، غاسق، فاجر. من أقاسي الأرض أتو، آمنين معترفين بالذنب، خافضين رؤوسهم، آسفين على ما مضى، سكنوا على طرف المدينة، .... ٩/٩/١٤٣٧


هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين