على ذِكرِ الفُصحَى
بقلم: عبد الله الصقعبي
مقال كتبته فيما مضى عن تجربة قديمة لي في التعليم استخدمت فيها العربية الفصحى طوال سنة كاملة ،وأجد في توجه الوزارة الجديد في غرس الفصحى في الطلاب مناسبة لإيراده
أتعجب كثيرا كلما طرحت موضوع الحديث بالفصحى أن هناك من يعارض الحديث بالفصحى ويصف متحدثها بالتنطع والتشدق وتحميل النفس مالاتطيق!!,وهذا الأمر يجعلني أتساءل ؛ هل الحديث باللغة العربية الفصحى أمر ممكن أم لا؟ومالفائدة منه؟
وبدأ موضوع الفصحى يلقى من اهتمامي مايلقى حتى وقعت على ملف متكامل للدكتور عبدالله الدنان عن هذا الموضوع بالذات والحقيقة أني دهشت من مما قرأت ,يقول الدنان عن تجربة تعلم الفصحى بالممارسة أنه ألزم نفسه على الحديث مع ابنه بالفصحى بعكس امه التي كانت تتحدث معه بالعامية , وبعد ثلاث سنوات أصبح ابنه متحدثا فصيحا وبنفس الوقت يتحدث العامية بطلاقة وهذا قبل دخوله للمدرسة, ومما لفت انتباهه أن ابنه أصبح قارئا نهما والسبب في ذلك أن الكتاب الذي يقرأه يتحدث بلغته ,ففي الصف الثالث أي في عمر 9سنوات بلغ مجموع ماقرأه 300كتاب!!,ويقول أيضا في مقابلة معه : أن الطفل حتى عمر السادسة قادر على استيعاب ثلاث لغات ,ونسبة إبداعه مكتملة فإذا وصل السادسة بدأ بالنزول حتى الخامسة عشرة حينها تستقر نسبة ابداعه ,ومن عجيب ماقاله أن هناك مدرسة عالمية في استراليا قامت بتدريس أطفال في المرحلة التمهيدية على النحو التالي, اليوم الأول المعلمون الفرنسيون والثاني الانجليزيون والثالث الروسيون واكتشفوا بعد سنة من التعليم أن هؤلاء الأطفال استطاعوا استيعاب ثلاثة لغات دون التطرق إلى قواعد تلك اللغات بل فقط عن طريق الممارسة !! وحتى لا نذهب بعيدا فإن هناك بعض المدارس في المملكة قامت بتطبيق تعليم الفصحى بالممارسة وقد نتج عن ذلك طلاب بارعون وقارئون مثقفون.
وبعد ذلك قررت (والحديث لي )أن أقوم بتجربة بنفسي حتى أتأكد من ذلك فتقدمت بطلب لتدريس الصف الأول الابتدائي وكانت كالتالي , في السنة الأولى ألزمت نفسي بالحديث باللغة الفصحى ووجدت في ذلك صعوبة لكونها المرة الأولى التي ألزم نفسي بالفصحى وكان كلامي خليطا من العبارات وعلى الرغم من تجاوب التلاميذ إلا أني لم استطع إكمال التجربة ,وفي السنة الثانية كانت التجربة أكثر تركيزا وتنظيما,إذ أني -وإن كان كلامي حينها يشوبه من العامية شيء- بدأت بتعليمهم مفردات ومصطلحات فصيحة كخطوة أولى وبالطبع كل هذا عن طريق الممارسة لا التنظير فبدلا من أن يقول شنطة مثلا يقول حقيبة وبدلا من أن يقول أبي كذا يقول أريد كذا, بعد شوي بعد قليل ,حتى تعلموا وخلال الفصل الأول مايزيد عن أربعين مصطلح فصيح وأصبح بديلا عن العامي وفي الفصل الثاني كنت استبدل بعض الجمل العامية بجمل فصيحة وعن طريق الممارسة أيضا فبدلا من أن أقول لهم “طلع الكتاب من الشنطة أقول :” أخرج الكتاب من الحقيبة فيرد أحدهم “أنا أول واحد أخرجت الكتاب من الحقيبة “ وحين يقول لي: أنا جوعان ,أقول له :هل أنت جائعٌ فيقول نعم أنا جائعٌ وقد رفع الخبر دون أن يعرف المبتدأ والخبر وهكذا حتى خرج لي في النهاية مايعادل 70% من طلاب الصف نسبة الفصحى في حديثهم 40% تقريبا .
مالفائدة من كل هذا؟
تقول إحدى الباحثات والتي كانت تشغل وظيفة أمينة مكتبة لمعهد تعليم اللغة الإنجليزية في أمريكا ,اكتشفت -وهو ليس اكتشافا بالنسبة لنا- أن الطلاب العرب هم أقل الطلاب ارتيادا للمكتبة والقراءة منها وحينما تسألهم تتفاجأ برد غريب :هل سيأتي شيء منها في الامتحان!, أو قريب من هذه العبارة, وحينما بحثت واستفسرت وجدت أن العرب هم الوحيدون تقريبا الذين يملكون لغتين على حد تعبيرها ,لهجة عامية للحديث اليومي ولهجة أو لغة ثقافية مكتوبة وهذا ماجعل الطلاب العرب يعزفون عن القراءة ,أليست هذه جناية على اللغة العربية الفصحى أن نعزلها عن الحياة وكأن المتحدث بها هو شخص متنطع متشدق؟ بل إن اليونيسكو استبعد اللغة العربية كلغة حية لمدى الاختلاف بين الشعوب العربية في الحديث وكأنهم يتحدثون بلغة أخرى كل هذا بسبب اللهجة والمصطلحات العامية واستخدامها المبالغ فيه,صحيح قد يوجد في اللغة الإنجليزية بين مستخدميها مثلا مصطلحات عامية وأخرى فصيحة وكلام عامي وآخر فصيح إلا أنها تضل في إطار محدود ومحصور لاتنفر ولا تستنكر ,أنا لاأدعو المجتمع في يوم وليلة أن يصبح فصيحا بليغا وإن كان هذا مطلبا ,ولكني أدعو بداية إلى تنقية كلامنا من المصطلحات العامية واستبدالها بالفصيح خاصة تلك التي أوغلت في العامية حتى أصبحت اشبه ماتكون بالطلاسم ,أدعو إلى تطعيم أطفالنا بمصطلحات فصيحة كخطوة أولى , مالذي يمنع أن تنادي الجرسون مثلا بالنادل والكمبيوتر بالحاسب والمايكرفون باللاقط!لابأس تحدث بالإنجليزية في مكانها وتعلمها وأتقنها وعلمها أطفالك لكن لاتخلط بينها وبين العربية فهي إن سلمت من العامية نهشتها اللغات الأخرى وليكن حديثك عربيا فصيحا نقيا قدر المستطاع .
مُت فارغاً