Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
م
مُرقص

Modern day Saudi hippie.

مدة القراءة: دقيقة واحدة

حكاية مدرسة

Image title

عادةً ما يقترن مفهوم الظلم المؤسساتي بالظلم التي تعانيه الأقليات العرقية والدينية في الدول التي يتصدر صُنَّاع القرار فيها مجموعة من الأكثرية تحاول صياغة القوانين لحماية مصالحها كما في الحالة الأمريكية، وقد يحدث العكس مثلما كما في فترة الأبارتهايد بجنوب أفريقيا، ويوجد نوع مختلف يمكن أن يحدث بدون قصد أو علم وبلا أي فائدة أو مصالح خاصة مرجوة لمن وضع هذه القوانين أو اتخذ هذه القرارات.

درست طوال حياتي التعليمية العامة في المدرسة ذاتها أنا ومعي العديد من الأصدقاء، فعاصرنا جميع التغيرات التي طرأت عليها خلال العقد ونيف عشناه بين جدرانها، عن التغييرات الإدارية، المدرسين الراحلين والمدرسين الجدد، والطلاب المستجدين والطلاب الذين غادروا، الصيانات وتغيير الساحات والملاعب في منشآتها، ولكن التغيير الأهم بتاريخنا فيها هو ما حدث عندما انتقلنا من الصف الثالث ابتدائي إلى الصف الرابع ابتدائي، من المرحلة الأولية إلى المرحلة العليا من الابتدائية.

كانت مدرستنا متنوعة على كثير من الأصعدة، فقسطها الدراسي مرتفع نسبيًا ولكنه ليس مثل بعض المدارس الخاصة في الرياض التي يكون مرتفع لدرجة لا يرتادها إلا أبناء الطبقة المخملية أو من هم على منح خاصة من برامج حكومية، زاملنا أبناء العديد من التجار والواصلون اجتماعيًا، البدو والحضر، أبناء المنطقة الوسطى وأبناء بقية المناطق، ابن أشهر دعاة المملكة الدينيين في العصر الحديث، وابن أشهر أعلام اللبيرالية السعودية، وهذا التنوع قد يكون سببًا بسيطًا غير مباشر في أثر تكوين شخصيتي من ناحية خلق العلاقات والصداقات المتنوعة وانفتاحي مع مختلف أطياف المجتمع والثقافات محليًا وخارجيًا.

في المرحلة الأولية، أول ثلاث سنوات دراسية، كنا مقسمين على سبع فصول مختلفة، ولكن حينما يأتي وقت حصة اللغة الإنقليزية يتغير ترتيب الفصول إلى حسب مستوى الطالب في اللغة حتى يتحصلوا على مستوى تعليمي يتناسب مع قدراته اللغوية، تقسمت المستويات إلى A+ و A وB+  وهلم جرّا، على الرغم من تواضع مستواي اللغوي نسبيًا آنذاك إلا أنني صُنِّفت في مستوى A+، ويحصل هذا التصنيف بعد بضعة أسابيع من بداية الدراسة حيث يمكن لمدرسي اللغة خلالها من تقييم وتصنيف مستوى طلابهم في اللغة ومن ثم بعدها يحصل الانقسام والتقسيم في حصص اللغة الإنقليزية.

استمرت الحياة الدراسية على مستوى جيد طوال المرحلة الأولية، إلى أن عدنا من الإجازة الصيفية الطويلة وحدث مالم يكن بالحسبان وكانت بمثابة الصدمة للكثير، بعد ثلاث سنوات دراسية تكونت من خلالها أولى الصداقات الحياتية، والصداقات الأولى تحتل منزلة خاصة في وجدان الفرد، خصوصًا إذا ما استمرت لسنوات عديدة قادمة، من منا ينسى أول شخص أزاح نفسه ليفسح لك مكانًا للجلوس بجانبه؟ أو من تقاسم معك شطيرته وقت الغداء؟

مع بداية الصف الرابع ابتدائي تم إعادة تقسيم الطلاب على الفصول الدراسية كلها، فكل من صادقتهم في المرحلة الأولية الدراسية انتهت صداقتنا بعدما قررت المدرسة تقسيمنا إلى تركيبة فصول مختلفة جديدة، هذا التقسيم الجديد مبني على أفضلية الطلاب ومستوياتهم الدراسية، والعامل الأهم والأكثر تأثيرًا في تحديد ما إذا كان الطالب نجيب أو بليد هي اللغة الإنقليزية، إضافةً إلى عوامل أخرى، درست في المرحلة الأولية في الفصل السابع وبعد إعادة تقسيمنا أصبحت في الفصل الأول لأنني وكما كان يبدو كنت طالبًا نجيبًا، لم تكن هناك اختبارات أو مجموع درجات يحدد بشكل واضح الطالب الجيد من السيء، بل ما حدد ذلك هو تقييم المدرسين وخصوصًا رُوَّاد الفصول، لا أذكر أبدًا أنني كنت ذكيًا ومتفوقًا خصوصًا في تلك المرحلة، نعم قرأت بشكل أسرع وأسهل مقارنة بأقراني، وحللت المسائل الرياضية بكل أريحية، وكنت أتحدث وأفهم قدر يسير من الإنقليزية، ولكني حتمًا لم أكن ”دافورًا“ حتى أصنَّف في الفصل الأول.

ماحصل بعد إعادة التقسيم يذكرني برائعة المخرج الكوري بونق جوون هوو Snowpiercer، حيث ارتكزت القصة في عالم دستوبي تصبح فيه الأرض غير قابلة للعيش وينتقل من تبقى في الأرض على متن القطار، وفيه نرى التدرج الطبقي بين الناس، من يقبعون في المقطورات المتأخرة هم المعدمون الأقل حظًا متكدسون بأعداد كبيرة وبأسرة متراصة ويقدم لهم طعام رديء  وكلما تقدمت أكثر في القطار كلما ازدادت جودة حياتك والخدمات المقدمة لك. استخدمت الإدارة الفصول الأخيرة من الصف كوسيلة عقاب للطلبة المشاغبين ومفتعلي المشاكل في الفصول الأولى، فإذا تلفظت على مدرسك أو ضربت زميلك أو غيره، نقلتك الإدارة لمستنقع الفصول الأخيرة كعقاب لك، ولطبيعتي الشقية والجريئة آنذاك، حصل الأمر معي عدة مرات، جربت الدراسة في خمسة من الفصول السبعة وعايشت اختلاف بيئاتها ومستويات التدريس والطلاب، تأكدت من هذه المعلومة من صديقي صالح صاحب الذاكرة الحديدية والذي نصَّبناه مؤرخًا للمدرسة ليكون الفيصل بين اختلاف الروايات واتصال الأسانيد.

بنهاية الفصل الدراسي للصف الأول متوسط، صدرت النتائج الأولى للنسبة التراكمية للاختبارات النهائية بعد سنين من نظام التقييم المستمر، كان العشرة الأوائل جميعهم من الفصول الأولى، على الرغم من نسبتي المرتفعة إلا أنني لم أكن من العشرة الأوائل في فصلي عوضًا عن أكون من العشرة الأوائل في الصف، ولتوضيح الفجوة بشكل أكبر؛ أحد الأصدقاء كان في الفصول الأخيرة ترتيبه الأول هناك ويعتبر متفوقًا، وعندما انتقل لنا أصبح من الأخيرين.

كان معنا أبناء ملاك المدرسة، إحدى أغنى عوائل الرياض، ولا داع للقول بأنهم بالطبع زاملوني بالفصل الأول، وإحقاقًا للحق كانوا فعلًا أذكياء ومتفوقين، ولكني أعلم أنه حتى وإن لم يكونوا كذلك بالتأكيد سيرتادوا الفصول الأولى، المضحك المبكي بالموضوع أنهم عندما وصلوا للمرحلة الثانوية أكملوا دراستهم خارج المملكة في مدارس داخلية، الملاك أنفسهم يعلمون رداءة مدرستهم ونظامهم التعليمي للدرجة التي تجعلهم يبقونها كمشروع تجاري للاسترزاق على حساب أبناء المجتمع، ولكن لا يأتمنون أبنائهم عليها.

بعد مضي ما يقارب أربعة عشر سنة على قرار التقسيم، وفي ليلة باردة من ليالي شتاء الرياض القارس في صحاري نجد، اجتمعنا أنا ومجموعة من أصدقاء المدرسة، ومع سير الحديث تحول الموضوع إلى ذكرياتنا المدرسية وقصصنا ومغامراتنا بين جدرانها، وهذه هي أمتع المواضيع للحديث بالنسبة لي، خصوصًا عندما يكون الجميع درس في ذات المدرسة طوال المراحل الدراسية العامة، نستمر بالحديث لساعات وساعات بلا كلل أو ملل وجميعنا منصت باستمتاع لمجرى الحديث دون أن يتفقد ساعته أو يستخدم جواله ليرى آخر المستجدات لأحداث عالمية تبعد مئات الكيلو مترات عن موقعه لن تؤثر على حياته قيد أنملة.

لطالما تساءلنا عن سبب إعادة التقسيم مع بداية المرحلة العليا من الابتدائية، جهلنا سببه الحقيقي وظننا أنه كان اعتباطيًا بلا هدف، ولكن ما خرجنا به بعد نقاش وجدال طويل للبحث عن إجابة سؤال بلغ عمره أربعة عشر عام، أنه مبني على الأفضلية والتفوق، بالأخص باللغة الإنقليزية. قد تبدو إعادة التقسيم هذه مجرد قرار عابر بسيط، لكنه أثَّر بشكل كبير جدًا على حياة الطلاب ومستقبلهم بأكمله، ما قامت به المدرسة هو نوع من خلق بيئة جيدة مقابل أخرى سيئة وذلك من خلال وضع المتفوقين في الفصول الأولى ومن ثم الأقل أفضلية في الفصول التي تليها، مما يؤثر ولو بشكل غير مباشر على المستوى الدراسي وانحدار سقف الطموحات والمنافسة عمومًا، فالبيئة التي ينشأ بها الفرد تعتبر عامل أساسي مهم في تكوينه، وعندما توضع في فصل بليد سيء دون تواجد منافسة حقيقية للتحصيل الأفضل، تقتنع بعادية رداءة مستواك الدراسي وتحصيلك العلمي دون الطموح للأفضل، وعلى العكس من ذلك عندما توضع في فصل متفوق ممتاز.

قمنا باستطلاع سريع على الفوارق بين طلاب الفصول الأولى مقارنةً بالأخيرة، أعلم أن الموضوع تتدخل به عوامل أخرى كثيرة مثل المكانة الاجتماعية والاقتصادية، الحظوظ والتوجيهات، وغيرها الكثير. لكن المخرجات التي كانت من الفصول الأولى أفضل بكثير من الأخيرة من عدة نواحي، الجامعات التي ارتداوها، مسيرتهم الجامعية، تخرجهم أو تأخرهم، حياتهم الوظيفية وغيره الكثير، من المرعب تصوُّر أن يتشكل جزء كبير مستقبلك وبقية حياتك بناءً على قرار إداري سخيف غبي تم اتخاذه عندما كنت طفلًا.

 وأخيرًا، باعتقادي أن الموضوع سيكون أكثر إثارةً للاهتمام بكل تأكيد عندما نقيس هذه الفوارق بين طلاب الفصول بشكل علمي احصائي دقيق مدروس ولكن ليس الآن، ربما بعد مرور مدة طويلة كعشرين أو ثلاثين سنة قادمة.


م
مُرقص

Modern day Saudi hippie.

المزيد من الكاتب

هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين