Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
ط

كاتب صحفي ومعلق صوتي كويتي. يكتب للمواقع الصحفية العربية، ويضع صوته على المواد الوثائقية والإخبارية. هنا المدونة الشخصية.

مدة القراءة: دقيقة واحدة

في غياهب الظل!

Image title


ضحك لحظة تقديمه لها خاتم الخطوبة، فسارعت بكفيها تحجب ذلك القمر الباسم بين كتفيها خجلاً. كانت تلك لحظة انتصاره التي انتظرها طويلاً، بعد رحلة أعوام من المراقبة والصمت، والاحتراق الداخلي عشقاً وهياماً، بينما هي تسبح في فلك آخر، وتعيش أيامها وأحلامها.

كانت ابتسامتها ترياقه الصباحي، وعلمه بتفاصيل يومها يطمئنه، وثقته بالله تترسخ في فؤاده، وتلك المساحة الفاصلة بينهما تعينه على التماسك. لم يعلم كيف جرفه سيل مشاعره نحو بحر عشقها، لم يجد ما يتمسك به حتى ينقذ نفسه، لكنه لا ينسى تلك اللحظة التي غيرت مسار عمره، حين رأى صورتها وهي تبتسم، شعر برذاذ بارد يدخل رئتيه، وكأنما قُذف به وسط الريف السويسري. تسللت إليه السكينة، وانعكس جمالها في وجهه، فتحول لوردة تتلقى نورها، وتتنفس هواءها، وتمتص لعابها، لتنتج رحيقاً عذباً. 

أمضت تلك الأيام مفعمة بالحياة، باحثة أكاديمية أنيقة، خفيفة رقيقة، كأنها محمولة على بساط من حرير، تكرس نشاطها لنصرة النساء وحقوقهن، لغير محددي الجنسية، لمناهضة العنصرية، وتقدم محاضرات في الأندية الثقافية. لم تكن تعلم أن روحه تحوم حولها، كانت أمنيته أن تتسنى له فرصة الجلوس أمامها، أن يسمع نغمة صوتها، أن يستسلم لبهائها، أن يصافحها ويحادثها. انتظر فعالية تكون فيها الملكة المتوجة، لكن القدير لم يشَء ذلك؛ كان مسافراً حين علم بيوم محاضرتها في منصة أدبية، فتلقف بعضاً منها ببث مباشر في الإنترنت، ويا لسعادته حين رآها تتحدث للمرة الأولى صوتاً وصورة، كان كل حرف تنطق به ينقر على قلبه، وكأنه آلة طباعة، يدون كلماتها بشفتيه، كانت عيناه ناعستين، على وشك أن تذوبا في شاشة جهازه اللوحي، وتمتزجا معها، ليصنعا لوحة سريالية خالدة.

أمسك بإصبعها النحيل، وألبسها الخاتم برقة، كانت ابتسامة فرحها تشع في المقهى، ودموعها تترقرق وهي تنظر إلى وجهه اللطيف، بينما هو يرتجف مرتبكاً، لا يعلم بماذا يشعر، وكأنه مرمي في ثقب أسود، سابح بين الأبعاد لا يجد مستقراً. تمالك نفسه، وأعطاها خاتمه لتلبسه إياه، فرآها وقد طالت رقبتها حد السقف، وتمدد وجهها في كل الجدران، حتى ملأ بؤبؤ عينها المكان، فتحول لقهوة انسكبت عليه بسرعة خاطفة، قفز وهو يصرخ من شدة حرارتها، لكنه سقط على الأرض متألماً، لم تكن العصا بجانبه الصحيح حتى يتكئ عليها.

التفت الجميع نحوه، جاءت إحدى عاملات المقهى لتساعده على الوقوف، وهي تتذمر مما يكرر فعله كل مرة، لمح نفسه لحظة وقوفه عبر زجاج النافذة المقابلة، ليدرك أنه أمعن في سرحانه وغفا كعادته. عاد ليجلس على الكرسي وحيداً، يتأملها هناك، على كرسيها المتحرك، بابتسامتها التي لم تتغير منذ أربعين عاماً، وسط زوجها وأحفادها، وهم يحتفلون بعيد ميلادها السبعين!


ط

كاتب صحفي ومعلق صوتي كويتي. يكتب للمواقع الصحفية العربية، ويضع صوته على المواد الوثائقية والإخبارية. هنا المدونة الشخصية.

المزيد من الكاتب

هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين