Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
م

مع المحبرة إلى المقبرة..

مدة القراءة: دقيقة واحدة

نماذج إصلاحية في سوريا الحديثة

نماذج إصلاحية في سوريا الحديثة


لقد كان سؤال إقامة الشرع الإسلامي في الدولة الحديثة والمجتمع الحديث لايزال حاضراً منذ سقوط الخلافة العثمانية 1924 وحتى يومنا هذا، فهل وجد الإسلاميون الجواب الأقوم لهذا السؤال؟؟


مع بداية القرن العشرين ومع وصول رجل أوربا المريض إلى منتهى أجله كانت الدول الاستعمارية قد أعدت عدتها ورسمت خطتها لما كانت تنتظره منذ عشرات السنين، حدث ما كان محتملاً ووقعت الدول العربية والإسلامية تحت نير الخدائع الواهية التي قدمتها أوربا على وعاء من ذهب مغشوش للثائرين بتكوين خلافة جديدة عربية، ومع بداية الاستعمار كانت الخلافة العثمانية قد أزفت على الرحيل وتركت وراءها سؤال الخلافة الضائعة.

في ظل هذا الجو الموتور من الاستعمار الجديد وضياع الدولة الإسلامية وتشوه ملامح هوية المسلمين في غالب أصقاعهم، كان لايزال هناك من حافظ على معالم دينه وهويته، واستمر بالعيش عليها وهو منكر تشتت العالم الإسلامي وضياعه.. وكذلك كان حال سوريا كما كان في باقي الدول الإسلامية، فقد نشأ فيها أشخاص سيكون سؤال المشروع الإسلامي والعودة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية الدافع والموجه لهم طول مراحل عيشهم، ومع اختلاف دروبهم وسبلهم في هذا الأمر كان مغزاهم واحداً.

وسنقوم في هذا المقال بالوقوف على هذه السبل بأخذ نموذج واحد من كل منهج كان له وجود تاريخي في الإصلاح الإسلامي في سوريا في تلك الحقبة. وهذه النماذج ستمثل التوجه الإسلامي السياسي، والإسلامي الأصولي، والإسلامي الليبرالي على حد سواء.

وسنبدأ مع التوجه الإسلامي في الإصلاح السياسي – والذي نعني به جعل المشاركة السياسية السبيل في الإصلاح والعودة للتشريع الإسلامي-، والذي كان قد ظهر قبل ذلك بكثير مع ظهور حركات الإصلاح الجديدة، بدءاً من جمال الدين الأفغاني وصولاً إلى حسن البنا والإخوان المسلمون. ومن هذه المدرسة سيكون نموذجنا الأول الشيخ مصطفى السباعي الذي أسس المدرسة الإخوانية في سوريا، والذي انضم إليه فيها عدد كبير من المفكرين والمصلحين المؤثرين بالمجتمع السوري كالأستاذ عصام العطار ومحمد المبارك وغيرهما الكثير..

 

مصطفى السباعي:

ولد الشيخ مصطفى السباعي  عام 1915 في مدينة حمص ضمن عائلة معروفة بالعلم والتدين. شارك السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا وهو في السادسة عشرة من عمره، واعتقل أول مرة عام 1931 بتهمة توزيع منشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية، ثم اعتقل مرة ثانية بسبب الخطب التي كان يلقيها ضد السياسة الفرنسية والاحتلال الفرنسي. وفي عام 1933 ذهب إلى مصر للدراسة الجامعية، وشارك في تلك الأثناء بالمظاهرات المنددة بالاحتلال البريطاني، ومنها أيضاً كتب في مجلة الفتح ضد سياسة الاستعمار الفرنسي في سوريا التي أرادت تطبيق قانون الأحوال الشخصية ، كما أيد ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز، فاعتقلته السلطات المصرية بأمر من الإنجليز مع مجموعة من زملائه الطلبة قرابة ثلاثة أشهر، ثم نقل إلى معتقل (صرفند) بفلسطين حيث بقي أربعة أشهر، ثم أطلق سراحه بكفالة. إلا أن الحدث الأبرز في هذه الفترة كان تعرفه على الشيخ حسن البنا، الذي سيكون السبب في تأسيسه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا 1942 والتي سيكون أول مراقب عام لها في سوريا 1945، بعد أن كان قد أسس فعلياً جمعية (شباب محمد) التي ضمها إلى حركة الإخوان المسلمين.[1] في انتخابات البرلمان 1947 فاز الإخوان بقيادة السباعي، بعدد أصوات أكبر مما نالته أحزاب الشيوعي والبعث السوري القومي بسبب نشاط الإخوان المتنامي بين العمال والفقراء والفلاحين، ولقد قدمت الحركة بديلاً إسلامياً لجمهورها بمضمون سوري محلي عنوانه ((الحل السوري)). شارك هو وكتيبته في القتال في فلسطين خلال النكبة عام 1948. [2] وفي عام 1950 وفي مايعرف بحادثة الدستور حدث احتدام كبير في البرلمان حول تقرير دين الدولة حين شكلت جمعية تأسيسية لإقراره ،والتي كان يترأسها أكرم حوراني وحزبه ، فوقف السباعي في وجههم موضحاً أن سورية دولة برلمانية وحق التشريع يعود فقط للبرلمان وبما أن 90% من سكان سوريا مسلمين فبالتالي يصبح تلقائياً دين الدولة هو الإسلام، فحدث نقاش طويل وجدال لم يوصل إلى نتيجة فتقدم السباعي بمقترح جعل دين رئيس الدولة الإسلام بدل من دين الدولة. وتم الاتفاق على ذلك المقترح.[3] في عام 1952 طلب السباعي من الحكومة السورية السماح لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا بالمشاركة في حرب السويس إلى جانب المصريين، فقامت حكومة أديب الشيشكلي بحل الجماعة واعتقال السباعي وإخوانه، ثم أُصدر أمرٌبفصل السباعي من الجامعة السورية وإبعاده خارج سوريا إلى لبنان لفترة وجيزة. ثم ليخسر الانتخابات البرلمانية 1957 أمام مرشح البعث رياض المالكي. وحين قيام الوحدة بين سوريا ومصر قام الإخوان بحل حزبهم مؤيدين للوحدة لتنتهي بذلك مسيرة السباعي السياسية ويتجه بعدها إلى حركة التأليف العلمية.

 أصيب مصطفى السباعي في آخر عمره بالشلل النصفي، فشلَّ طرفه الأيسر وظل صابرا محتسبا ثماني سنوات حتى توفي 1964، وصُلي عليه في الجامع الأموي في دمشق .بعد أن ألف عدد كبيراً من الكتب المهمة في المكتبة الإسلامية.

لقد أردت من خلال هذا العرض الموجز لنشاط السباعي السياسي التعرف على ما قام به لنستخلص منه منهجيته في الإصلاح وآراءه واجتهاداته التي كانت تمثل أعرض التيارات الإسلامية في سوريا؛ تيار الإخوان المسلمين.

كان السباعي كما ذكرنا من قبل من التيار الذي يؤمن بالتغيير السياسي، وقد كان منهجه في ذلك قائماً على عدة أمور، منها:
    1. شرعية المشاركة السياسية في البرلمان وإيجاد الحلول من داخل الوضع القائم بعيداً عن الانقلابات والثورات

    2. التعامل مع الديمقراطية على أنها السبيل المتوفر للوصول إلى حكم الدولة وتطبيق أحكام الشرع الإسلامي

    3. الواقعية القائمة على الذاتية: وتعني كما يصفها السباعي ''أن تكون الدعوة منبثقة من طبيعة الأمة، مستوحاة من حاجاتها"، والتقدمية: وتعني '' أن تكون الحركة الإصلاحية أو الدعوات الاجتماعية مسايرة لتطور الحياة وتقدم الحضارة''، والشمولية: وتعني "أن تحتوي الدعوات الإصلاحية مناهج الإصلاح لكل نواحي الحياة في المجتمع الذي تقوم فيه، فالأخلاق لا تنفصل عن الاقتصاد، والسياسة لا تنفصل عن العلم".[4]

   4. واشتراكية الإسلام –وهو من أكثر ما خُولف فيه وانتُقد على السباعي من كل التوجهات الإسلامية- حيث يقول: " لقد اخترت القول باشتراكية الإسلام مع العلم بكل مايقول هؤلاء، لأني لا اعتقد أن الاشتراكية (موضة) ستزول بل هي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أٌقدم العصور.. إلى أن يقول: وليست حقيقة الاشتراكية هي (التأميم) ولا (انتزاع رأس المال) ولا (تحديد الملكية) ولا (الضرائب التصاعدية) بل هذه كلها وسائل يراها دعاتها الطريق الصحيح لتحقيق هدف الاشتراكية".[5] وإن كان هذا اجتهاد لا يمثل توجه الجماعة ككل بل هو اجتهاد فردي.

قامت حركة السباعي الإصلاحية على هذه الأسس، والتي كانت نواة لمشاركات سياسية سيستمر فيها الإخوان على المسرح السياسي إلى أحداث حماة وحلب في الثمانينات، واضعة أسئلة كبيرة على طاولة الحوار السوري اليومي، فحواها: هل كان هذا الطريق الأصلح للإسلاميين المحافظين للوصول إلى بغيتهم؟ هل كانت تقديمات الإخوان مؤثرة في تغير وجهة المجتمع السوري؟ ولماذا لم يحققوا وجودهم السياسي في الدولة بعد ما يقارب خمسين عاماً من العمل الجاد والدؤوب؟


 كان هذا أحد النماذج الثلاثة التي أردت التحدث عنها، والذي مثل التوجه الإسلامي السياسي في الإصلاح والتغيير. والآن سنقوم بجولة مع نموذجنا الثاني الذي يمثل توجه الإسلاميين الأصوليين.

ولكن قبل البدء أود التعريف بمصطلح الإسلاميين الأصوليين بشكل مبسط. وهو مصطلح أُطلق عرفاً على المشايخ والعلماء الذي كان لهم نموذج تقليدي في تلقي التعليم في المساجد والمعاهد الدينية ، والعمل على إنشاء جيل من طلاب العلم وإيصال المجتمع إلى الصلاح، والانعزال عن العمل السياسي، ولكن مع الوقوف على الطوارئ النازلة ومحاربة ما يطعن بالدين مما يخرج من السياسة بالقدر الممكن، لأن هذا هو الطريق الأمثل للتغيير وإرجاع الناس إلى الحكم الإسلامي كما يرون. مع الإشارة إلى خروج قسم من هذه المدرسة لمداهنة السلطات والوقوف عند آراء الحكام بل وصبغها بصبغة دينية إذا احتاج الأمر كمجمع أبي النور متمثلاًبشيخه أحمد كفتارو وغيره.

لقد عُرف توجه الإصلاح الديني في العالم الإسلامي منذ زمن بعيد وله شواهده من العصور المبكرة للإسلام كالحسن البصري الذي كان يولي اهتمامه لإصلاح المجتمع بشكل أساسي، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الواقعة بين هاتين المرحلتين الزمانيتين.

 أما عن الشام فإن هذه السلسلة العلمائية يعود أصلها إلى محدث الشام الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني -وقد عاصر عهد السلطان عبد الحميد الثاني- الذي كانت امتداداته التعليمية تشمل معظم علماء الشام الذين وجدوا في تلك الفترة أي فترة مابعد سقوط الخلافة العثمانية ومنها الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي سيكون نموذجنا في هذه المدرسة.


الشيخ حسن حبنكة الميداني:

ولد الشيخ حسن بن مرزوق حبنكة بحي الميدان بدمشق عام 1908، وتتلمذ على كبار علماء دمشق، فقد تتلمذ على العلامة بدر الدين الحسني والشيخ علي الدقر، وكان من تلامذته ابنه الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة والشيخ حسين خطاب والمقرئ كريم راجح، ومصطفى البغا، ومحمد سعيد رمضان البوطي. شارك الشّيخ في الثّورة ضدّ الفرنسيين، ولحق بجماعة الشّيخ محمّد الأشمر، ولمّا رأى أنّ شوكة الفرنسيين قد اشتدّت وأنّهم قد استقرّوا في بلاد الشّام؛ خرج من بلاده إلى الأردن، وأقام فيه حوالي سنتين، قام فيها بجباية المال من التجار للمجاهدين في دمشق التي مالبث أن عاد إليها. ولمّا أراد الاستعمار الفرنسي في سورية سَنّ قانون الطّوائف، وفيه جواز تزويج المسلمات باليهـود والنّصارى وغيرهم من طوائف بلاد الشّام؛ قام الشّيخ في وجه الاحتلال الفرنسي، ونظم مظاهرة كبيرة خرجت من حي الميدان تريد مبنى رئاسة الوزراء، وضجّت الحكومة بها، وخافت من عواقبها وطلبت من الشيخ حسن إرجاع المتظاهرين؛ ليتسنّى للمندوب السامي الفرنسي الاتصال بحكومة بلاده واستشارتها في إلغاء القانون فوافق الشيخ، ثم ألغي القانون بعد ذلك.[6]

يعد الشيخ أحد أركان النهضة العلمية التي أطلقها الشيخ علي الدقر في الشام حيث أشرف على مدارس الجمعية الغراء؛ والتي تخرج منها الكثير من العلماء، وأوكل إليه شيخه بناء مدرسة سعادة الأبناء بحي الشاغور، ثم إنشاء مدرسة وقاية الأبناء وإدارتها في حي الميدان، ثم قام الشيخ بتأسيس معهد شرعي خاص به اسماه معهد التوجيه الإسلامي؛ تخرج فيه علماء كثر من سوريا وغيرها وكان مقره في جامع منجك في الميدان الذي تولى الشيخ خطابته أكثر من أربعين سنة. لم يتوقف نشاط الشيخ على الناحية العلمية فقط بل توجه إلى الإصلاح الاجتماعي كذلك؛ فوجَّه لإنشاء الجمعيات الخيرية لرعاية الفقراء والمرضى. وكان الشيخ ملاذ العامة والخاصة في معضلات أمورهم ومشاكلهم وغدا بيته أشبه بمجلسٍ للقضاء والصلح والشورى.[7]

عام 1967 نشرت مجلة جيش الشعب مقال للمرشح العلوي إبراهيم خلاص تحت عنوان "الطريق لخلق إنساننا العربي الجديد" ينطوي على استهزاء سافر للقيم الدينية، وكردٍّ على هذا المقال الإلحادي خرج الشيخ من على منبر جامع المنجك ليلقي خطبة مدوية رداً على المقال المذكور، جاء فيها: "هذه مجلة تصدر باسم الجيش الشعبي وتقول هذا الكلام، إنه والله نفاق، إنه والله لشديد الوقع، إنه والله لايمكن تحمله، حسبنا ياقوم إلحاداً وضلالاً واستهتاراً بالشعور، لا تظنوا أنه إذا ملك الإنسان السلاح ملك كل شي، والله لايجدي السلاح شيئاً إذا أراد الله أمراً". فكانت الشعلة لمظاهرات قامت تندد بالمقال. فسحبت المجلة المقال وحاكمت الكاتب. ولكن على أثر هذه الحادثة قام النظام بإغلاق مدرسة الشيخ والجمعية التي كان يدرس فيها، واعتقله لفترة في قلعة دمشق، ولم يخرجه إلا بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل لتغطية عار الهزيمة أمام الشعب. بعدها بأعوام وقف الشيخ في وجه دستور 1973 الذي أقره حافظ الأسد والذي ألغى فيه دين رئيس الدولة، ليقوم بإعادة المادة بعد الحصول على فتوى من موسى الصدر الإمام الشيعي فتوى تفيد بكون العلوية مسلمون. رحل الشيخ عام 1978 عن 70 عاماً قضاها في مواجهة الاستبداد البعثي ومحاربة شيوخ النفاق.[8]

من خلال هذا السرد المختصر لحياة الشيخ نستطيع أن نستشف منهجه الإصلاحي على الترتيب التالي:

  • كان يرى تربية طالب علم حتى يكون عالماً في العلوم الإسلامية فقيهاً في الدين، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أنفع للإسلام والمسلمين من تجميع عشرات الآلاف من الناس على التحمس للإسلام، دون أن يكون لهم علم يصونهم عن التحوّل في أفكارهم ونفوسهم وعواطفهم، وكان ذلك واضحاً من خلال عدد المدارس والجمعيات التعليمية التي أنشأها الشيخ.
  • اقتصرت مشاركاته السياسية على التوجيه العام، والنصح للأحزاب والحكّام، متى وجد للنصح سبيلاً.
  • كان شديد الحذر والأخذ بالحيطة البالغة في مواجهة الاستدراجات السياسية. ومن أمثلة شدة حذره واحتياطه البالغ رفضه دعوة السفارة السوفييتية له في بيروت حضور مؤتمر للسلام على الرغم من تكرار محاولاتهم وإلحاحاتهم.[9]

وينبغي الإشارة إلا أن مراتب العمل الدعوي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين العلماء في تلك الفترة لم تكن عند الكل كما كانت عند الشيخ حسن حبنكة، فقد تفاوتوا في ذلك، فقد وجد علماء كثر اكتفوا بالإصلاح المجتمعي والتعليم، على أنه بنفس الوقت وجد علماء كثر قاموا بقريب مما قام به الشيخ، من خلال النهضة العلمية، أو نقد المجريات السياسية.

والسؤال الذي يطرح الآن: ما مقدار النهضة العلمية التي حققها العلماء في تلك الفترة وما أثرها اليوم؟ وهل كانت مقتصرة على طلاب العلم الشرعي فقط دون غيرهم من باقي فئات المجتمع؟ وهل كان سليماً ترك السياسة لغير المتدينين والعلمانيين يفعلون فيها ما يشاؤون؟ ولماذا لم يتحقق الإصلاح الديني في المجتمع إلى يوم الناس هذا أم أن الأمر خلاف ذلك؟ أسئلة تحتاج في الجواب عليها لعقلانية بعيدة عن المبالغة في حمل الأسباب على عامل واحد، وإلى النظر في باقي معطيات المجتمع السوري والعالمي المؤثر في سير الأحداث..


والآن بعد أن أخذنا صورة عامة عن نموذج من تيار الإصلاح الديني الأصولي، وحاولنا اكتشاف منهجه الإصلاحي. سنقوم بإلقاء نظرة على المنهج الإسلامي الليبرالي- وهو المذهب الذي حاول الجمع بين نقيضين والتوفيق بينهما للوصول إلى دولة  إسلامية بشكل حديث-مع أن نماذجه عزيزة في الحالة السورية تكاد تكون محصورة  بالدكتور معروف الدواليبي.

معروف الدواليبي:

ولد معروف بن محمد رسول الدواليبي في مدينة حلب 1909 في أسرة متواضعة، درس في مدرسة فرنسية ثم انتقل إلى المدرسة الشرعية (الخسرفية) بحلب. بعد إنهاء دراسته الثانوية، التحق بالجامعة السورية في دمشق ودرس اختصاص الحقوق إلى جانب اختصاص الشريعة. نشط ضد الانتداب الفرنسي وأصبح عضواً في الكتلة الوطنية 1937. بدأت حياته السياسية ممثلاً لسورية في الاستفتاء الشعبي على مصير لواء الاسكندرون. ولتفوقه الدراسي أوفدته وزارة المعارف السورية لاستكمال دراسته العليا في جامعة باريس (السوربون) 1938. درس في جامعة باريس القانون الروماني. وبسبب قيام الحرب العالمية الثانية في ظل مكوثه في باريس قام بتشكيل جمعية للطلاب العرب جمعهم فيها وكان لها حضور في المناسبات العامة والأحداث السياسية. وكان له في تلك الفترة أياد في مساعدة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي كان يناضل سياسياً للقضية الفلسطينية. اصطدم في جامعته ببعض المستشرقين اليهود الحانقين على الإسلام ونافح عن الإسلام في وجههم حتى رد على شبههم واحدة واحدة. وعقب انتهاء الحرب وبعد عودته إلى سوريا 1947 رشحته الكتلة الوطنية للانتخابات البرلمانية عن مدينة حلب وفاز فوزاً ساحقاً. في أواخر عام 1949 أصبح وزيراً للاقتصاد الوطني في حكومة خالد العظم قام خلالها بإصلاحات حقيقية في الاقتصاد السوري. بعد انقلاب أديب الشيشكلي الأول انتُخب الدواليبي رئيساً للمجلس النيابي 1951. وشكل الوزارة دون الرجوع إلى الشيشكلي لأنه كان يصر على عدم تدخل الجيش في السياسة. مما دفع العقيد الشيشكلي للانقلاب للمرة الثانية وحبس الدواليبي وحكومته الجديدة، إلا أن الانقلاب على أديب الشيشكلي 1954 دفع الدواليبي وحفاظاً على الدستورية لتقديم استقالته إلى الرئيس هاشم الأتاسي التي لم تستمر حكومته سوى 100 يوم لصالح الانقلاب العسكري. بقي الدواليبي في تلك الفترة – بما فيها فترة الوحدة بين سوريا ومصر التي لم يكن من مؤيديها- مكتفياً بتمثيل البرلمان في حلب. ليصبح في مرحلة ما بعد الوحدة في رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية ويعلن تبنيه مبدأ الحرية الاقتصادية. لن يطول الوقت أكثر من سنة، وتُنهي ثورة 8 آذار 1963 فترة الانفصال، ويعتقل الإنقلابيون سائر الساسة السوريين، وبعد الإفراج عنهم عام 1964 سيطلبون من الدواليبي مغادرة سورية، وسيأبى ولكنهم سيلحون عليه بالمغادرة المؤقتة ثم سيحولون دون عودته إلى وطنه. بعدئذ سيحل ضيفاً على المملكة العربية السعودية، ويتقلد منصب مستشار في الديوان الملكي منذ عام 1965.

من الأحداث المهمة الذكر عندما أصبح الدواليبي مستشار الملك فيصل أن الفاتيكان وجه دعوة لوفد من المملكة. وقد أثارت الدعوة إسرائيل واستاءت منها، فقد خشيت أن تنجح وتؤدي إلى نوع من التقارب بين المسلمين والمسيحيين، وحسب مذكرات الدواليبي كان الملك فيصل متهيباً منها وقال له حينما وصلته دعوة البابا: يادكتور مشايخنا يجتمعون وربما يتفاهمون مع مشايخ العالم الإسلامي فكيف تأخذهم إلى البابا؟ فقال له: ياجلالة الملك هذا القصر الذي يسكنه الفاتيكان هو البناء نفسه الذي أصدر قراراً قبل عشرة قرون بمحاربة الإسلام. والآن يطلبون منكم أن تدخلوا إليه، لتعلنوا كلمة الإسلام في حقوق الإنسان، ونحن أمة دعوة يجب أن نذهب إليهم وندعوهم.

 توفي الدكتور معروف الدواليبي عام 2004، عن عمر ناهز الخمسة والتسعين عاماً ودفن في البقيع.[10]

وبعد هذه الجولة مع أحد رجالات سوريا السياسيين الذين عاشوا طول حياتهم في السياسة متمسكين بهويتهم الإسلامية، نستطيع التماس منهجه الإصلاحي في النقاط التالية:

   1. العمل السياسي بجميع أشكاله ومحاولة تحقيق الإصلاحات الاجتماعية الممكنة بعيد عن قوة الجيش والعسكر.

   2.التعاون مع جميع أطياف السياسة السورية باختلاف توجهاتهم، والعمل على تطوير وتحديث سوريا، وخدمة المجتمع السوري.

   3. الانفتاح على العالم وعلى الأديان المختلفة، ونشر رسالة الإسلام –وهذا نستشفه من حديثه مع الملك فيصل- وكذلك من مذكراته، حيث يقول فيها[11]: "حول مايمكن فعله في المؤتمرات الإسلامية؛ أرى أن تُدعى نخبة من كبار العلماء في العالم الإسلامي، ويعقدون مؤتمراً لمدة يومين للتعريف بحقائق الإسلام وثوابته".

ومن الجيد معرفة أن الدواليبي كان له قبول واحترام عند أصحاب التوجهات الإسلامية المختلفة ، وكذلك عند عدم المتدينين وأصحاب الاتجاهات المختلفة.

ونعود لطرح أسئلتنا بعد هذه الجولة: ماهي ثمار البذور التي قدمها الدواليبي طوال حياته في العمل السياسي والدعوة؟ وهل هذا النموذج الأمثل للمشاركة في الحياة السياسية اليوم؟ وما مدى قدرة هذا النموذج على تطبيق الشرع الإسلامي وإعادة الدولة الإسلامية؟

تبقى هذه الأسئلة دائرة في فضاء البحث، تبحث عن جواب شافٍ من بعيد نظر، خبير بالمجتمع واحتياجاته..







[1] رواية اسمها سورية: مجموعة من المؤلفين - المجلد الثاني -.



[2] تاريخ سوريا المعاصر: كمال ديب (ص 94).



[3] موسوعة سوريا السياسية: قناة أورينت



[4] مصطفى السباعي الداعية المجدد : عدنان زرور (ص 338).



[5] المصدر السابق (ص:369)



[6] مقال: حسن حبنّكة الميداني العالم العَلَم المجاهد:رابطة علماء الشام.



[7] سلسلة من أعلام الشام.



[8] موسوعة سوريا السياسية: قناة أورينت.



[9] مقال: الشيخ حسن حبنكة الميداني: رابطة العلماء السوريين.



[10] رواية اسمها سورية: مجموعة من المؤلفين- المجلد الثاني -.



[11] مذكرات الدواليبي ص (239).




م

مع المحبرة إلى المقبرة..

المزيد من الكاتب

هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين