مكانة السيارة في المجتمع السعودي
لا تعتبر السيارة في السعودية مجرد وسيلة نقل من النقطة أ إلى النقطة ب، خصوصًا في دولة تتعدد مدنها المركزية ذات التخطيط غير الآدمي والذي لا يتناسب الا مع المراكب الحديدية ذات الأربع قوائم، حيث تنعدم فيها أبسط وسائل النقل العام كالحافلات والقطارات وأرصفة المشاة وغيرها، بل تتعدى السيارة ذلك لتتحول لمعنى أعمق وأكبر، لجزء من هوية الشخص لدى الآخر، أو محل نزاع وانشقاق اجتماعي لعقود، أو رقعة مستطيلة من الحرية المتنقلة الهاربة من تابوهات المجتمع باختلاف أنواعها.
تقترن السيارة بهوية الشخص في السعودية اقترانًا وثيقًا، لدرجة أنها تصبح سمةً من سماته التعريفية للغير، فعندما يسألك شخص عن آخر ولكنكم لستم متأكدين من أنكم تتحدثون عن ذات الشخص، تأتي سيارة من تتحدثون عنه كمنطوق حكم يقضي بهويته، ”سعد محمد اللي معه سوناتا حمراء ذيك؟“ بعدها تتأكدون مِن هوية مَن تتحدثون عنه وما إذا كنتم تشتركون بمعرفته أو لا، قد تتشابه الأسماء والصفات الجسدية والمنطقية السكنية ولكن كلها لا يهم كثيرًا، ما يهم هي سيارته التي يُعرَف بها.
يجتمع الأصدقاء في أحد مقاهي المدينة المعتادة في أحد أيام نهاية الأسبوع، لا يهم عادةً طعم وجودة القهوة أو الأكل في المكان، ما يهم هو موقعه ووجود جلسات خارجية للتدخين، يبدؤون حديثهم عن آخر مستجداتهم الحياتية أيًا كان نوعها، دراسة وظيفة زواج إلخ، من ثم ينتقل مجرى وسير الكلام إلى الأخبار الكروية أو آخر تقليعات مشاهير برامج التواصل الاجتماعي وهراؤهم وغباؤهم اللامتناهي، كل هذه الأحاديث تأتي بأريحية واسترسال إلى أن ينتقل مجرى المحادثة إلى آخر الماجريات السياسية المحلية فهنا؛ يبدأ الأصدقاء بالالتفات يمنةً ويسرة، يخفضون من أصواتهم ويستخدمون كلمات وجمل مشفرة لحماية حديثهم من آذان الأخ الأكبر في المكان، إلى أن يصرِّح أحدهم: ”في الجو غيم يخوان، مشينا مشينا.“. يطفح الكيل بهم فينتقلوا إلى ذلك الصندوق الحديدي المتحرك، رقعة الحرية المتنقلة، المكان الوحيد الذي يضمن لك حرية المعتقد والحديث، ليبدؤوا مشوارهم ذو الوجهة غير المحددة والذي سلكوه فقط ليتسنى لهم الحديث بكل أريحية عن الأوضاع السياسية المحلية وإبداء آراؤهم حولها، دون أن يخفضوا أصواتهم أو يشفروا في كلامهم خشيةً من أخيهم الأكبر.
في مجتمع محافظ نسبيًا، تبدو فكرة ”التدييت“ أو الخروج في موعد غرام بمكان عام في السعودية أمرًا صعبًا على كلا الطرفين، حيث يخشى كلاهما من مصادفة أحد معارفهم أو أقربائهم، كذلك لا يخلو ذلك الموعد من التوتر والتوجس والخوف من نظرات الناس المبحلقة، خصوصًا إن كان الأحباب في مازالوا في بداية شبابهم العشريني فعندها يزيد الناس نظراتهم المريبة حول منظر الأحباب الذي يصعب تفسيره، أما إن كانوا ثلاثينيون أو في أواخر العشرينات على الأقل، فقد يُتَقبل منظرهم ظانين أنهم أزواج. يلجأ العديد من الأحباب إلى إمضاء معظم الموعد الغرامي في السيارة ”مفرفرين“ حول أرجاء المدينة متبادلين أطراف الحديث مستمعين إلى أغانيهم المفضلة. أحد الأصدقاء أُفتضح أمر علاقته بسبب السيارة، خرج في موعد غرامي مع حبيبته آنذاك وزوجته لاحقًا، بعد نهاية الموعد بأيام ركبت أخته معه ذات السيارة التي خرج بها في موعده الغرامي، لم تكشف أمره من الرائحة أو غرض نسائي نسته حبيبته، بل عندما حاولت أخته أن تشبك جوالها في نظام الوسائط المتعددة وقرأت اسم حبيبته بين الجوالات التي شبكت مسبقًا وسألته عن هويتها فتلعثم صاحبنا ولم يجد مجالًا إلا الاعتراف، حينها دعمت أخته علاقتهما التي تكللت بالزواج بنهاية الأمر.
يعتبر ذلك المكعب الحديدي المتحرك ملجئًا للحشاشين كذلك، بما أنه مجرم بالسعودية واستخدامه في الأماكن العامة خطر ومريب على المتعاطي بشكل كبير، بعكس ماهو عليه في كثير من دول العالم المجرِّمة لحيازته وتعاطيه كذلك، الا أنها ترخي من شدة وطأتها على المتعاطين في الشوارع والحدائق العامة حيث يتعاطاه العديد بها دون خوف وارتياب من النظرة الاجتماعية أو من أن يُقبض عليهم متلبسين بجرمهم، حيث تعتبر حيازة كمية قليلة من الحشيش في بعض الدول مخالفة وليست جريمة تستوجب المحاكمة والسجن إنما فقط يتم تغريمه أو إجباره على العمل لساعات محددة كخدمات اجتماعية، فما كان للحشاشين في السعودية إلا أن يلجأوا لذلك المكعب الحديدي المتنقل، حيث يركبون سويًا متجهين في طرق رئيسية طويلة معينة تمتد إلى ثلاثين كيلو من السير المستقيم، يعلمون مسبقًا ندرة وجود دوريات المرور فيها، وتتكون عادةً من خمس مسارات مما يصعِّب إجراء تفاتيش مفاجئة عليها، يتناقلون الصاروخ فيما بينهم بينما تصدح أصوات الموسيقى الغربية من مكبرات الصوت، يسيرون مع طريقهم السري نازلين منحدراته وصاعدين ارتفاعاته وكأنهم ركاب أفعوانية تتحرك على غير العادة ببطء، تبدأ رؤوسهم بالميلان ويفقدون إحساسهم بالمكان والزمان بينما يستشري سم القنب في أبدانهم، يسلكون ذلك الطريق مرارًا وتكرارًا إلى أن تنتهي الكمية التي بحوزتهم ليعودوا أحرارًا مرةً أخرى ولا يمكن لرجل الضبط الجنائي القبض عليهم دون وجود دليل الجريمة الذي تعاطوه قبل قليل في الطريق.
عادةً ما تأتي لحظات الإلهام لدى البشر في المواقف الروتينية اليومية التي لا تتطلب جهدًا عسيرًا في التفكير بسبب تحولها لعادات يومية يسهل للفرد القيام بها بأدنى جهد ذهني ممكن، كالاستحمام أو إعداد كوب قهوة أو تفريش الأسنان وغيرها. تأتي العديد من لحظات الإلهام هذه من المهمة اليومية الروتينية المعتادة لقيادة السيارة، خصوصًا عند الشباب سعودي الذي يقضي معظم وقته متنقلًا بها. وبالأخص عند القيادة بلا وجهة محددة في أوقات متأخرة من ليالي أيام الأسبوع حيث لا يعكر ازدحام السيارات على صفو الخيال والإلهام، فكرتي لكتابة هذا المقال أتت من لحظة كهذه. وأستذكر هنا كلام المخرج السعودي بدر الحمود حول لحظة الإلهام التي أتته لكتابة فلمه الأخير ”فضيلة أن تكون لا أحد“، حين كان يقود سيارته في صباحات أيام نهاية الأسبوع الهادئة، حيث معظم الناس كان قد انتهى لتوه من سهراته في ليلة البارحة ويقبع حاليًا في سبات نومه، خرج بدر ليشتري كوب شاي ويستمع أغانيه المفضلة ويسير حول شوارع مدينته بلا وجهة محددة حتى أتته لحظة اليوريكا التي لطالما انتظرها.
كانت السيارة محور أساسيًا لأحد أهم الجدالات المجتمعية التي قسمت المجتمع إلى صراعات تيارية مليئة بالتخوين والتكفير والتدييث وتراشق التهم بين الطرفين، الذي استمر منذ تأسيس الدولة حتى قبل عامين، فموضوع مهم مثل قيادة المرأة قَبَعَ على سطح الحوارات والمطالب السياسية في السعودية لعقود مضت، حركات ومواقف حقوقية أصبحت جزء من تاريخ النضال الحقوقي للنساء السعوديات، ما فعلنه نساء نوفمبر ١٩٩٠، يشابه تمامًا ما قامت به روزا باركس تمامًا عندما رفضت التنحي عن مقعدها في الحافلة للرجل الأبيض والتي اشتعلت عندها انتفاضة وحركة الحقوق المدنية في أمريكا.
وأخيرًا مع مرور الزمن وتطور وسائل المواصلات والنقل العام، والتغيرات الآيدلوجية الحتمية على الأجيال المقبلة، ستفقد السيارة معظم المعاني التي حملتها لأزمنة وعقود سلفت وتعود كما هي أساسًا، مجرد وسيلة نقل لا أكثر ولا أقل.