Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
A
Ahmed Elsebai

هنا فتي يسطر حروفا حمقاء ، لم يكف عنها حيث لم تتركه الوحدة طيلة حياته💔

مدة القراءة: دقيقة واحدة

اشتراها التراب الأسود💔

" السادة المشاهدين الكرام ، أعلن المتحدثة باسم وزارة الصحة منذ قليل في بيانها العاجل أن مدينة ميلان أصبحت معقلا للوباء المنتشر حديثا ، وخلال استعراضها لكافة الاستعدادات والإجراءات التي أقرتها الحكومة للتعامل مع هذا الوباء مجهول الهوية أعلنت قرارها القطعي بعزل المدينة بأكملها.

وفي استجابة سريعة لقرار الحكومة والوزارة معا تحركت صباح اليوم القوات الخاصة بوازرة الداخلية للعمل علي تنفيذ ما جاء في هذا البيان العاجل ، رحم الله الذين فتك بهم الوباء اللعين ، وأعان المصابين في حربهم مع هذا الوباء ، حفظكم الله".

آسية ..... آسية ...... آسية

رددها ثلاثا ، وانهمرت عيناه باكية .

........................................................................

"زين"

منذ بضعة أيام هاتفت "آسية" للخروج في موعدنا الأسبوعي لتناول الطعام في أحد المطاعم المشهورة في "البندقية" مدينتا التي هاجرنا إليها منذ خمسة أعوام ، وانخرطنا بين سكانها بطبيعة التشابه الثقافي بين الثقافة الإيطالية والعربية ، وعلي كل حال وافقت "آسية" علي لقائي كعادتها.

مع دقات الساعة السابعة مساء كنت أطأ بقدمي سيارتي متجها صوب منزل "آسية" ، بعد حوالي عشر دقائق كنت قد وصلت لم أكد أطأ الأرض مرة أخري حتي وقعت صرخاتها وسبابها علي أذناي وقع الصاعقة ، لكني لم أبال فهذا ما اعتدت عليه حين لا يوقظني المنبه.

أخبرتها قائلا

" بالطبع يا عزيزتي تأخرت لنصف الساعة ، ولكن تلك المرة لا أجد عذرا مقبولا لأقدمه فلتصفحي عني إن شئتِ "

فنظرت إلي عيني لا تبالي بخطيئتي وقالت:

" إذن ، لا بأس ، لأقود السيارة الليلة كنوع من العقاب لك "

.........................................................................

" آسية "

كان زين يدري قلة خبرتي في عملية القيادة ، كان يعلم أن مطلبي أو بالأخص" عقابي له " شيئا في غاية الخطورة ، لكنه لم يكن لديه خيار آخر ، ويظن أنه بصمته ستتمكن أذنه من تفادي شجار عنيف بيننا.

المهم هو أنه وافق ، كانت هذه أمنيتي وحينما جاءتني فرصة تشبثت بها ، كانت الأمواج كلها تتلاطم لأجلي ، اردت مقعد القيادة وبجواري "زين" ، كنت في البداية مضطربة كثيرا ولكن بعد خمس دقائق زالت الرهبة ، لاسيما وقد كان الطريق الذي سلكناه خاليا من الزحام إن لم يكن خاليا من السيارات برمتها ، ما إن وصلنا وتوقفت السيارة حتي تعالت ضحكاتي المضطربة الساخرة من "زين" حين رأيته مش شدة الرهبة يردد الشهادتين طيلة الطريق.

.....................................................................

"زين"

سريعا ما تناسيت ما حدث وأسرعت بالدخول خلف فتاتي التي تركتني واندثرت إلي داخل المطعم ، لاحظنا قلة عدد المرتادين للمطعم لاسيما أن الليلة كانت ليلة شتوية ممطرة وعكف الكثير في أحضان المنازل ، وبكل ديكتاتورية متسلطة مثيرة للغيظة تطلب "آسية" الطعام دون مبالة لوجودي ، وينتاب الصمت منا كثيرا حتي وصلت أطباق الطعام المائدة ، وخلال وقت رومانسي شاعري وجدتها تطرق باب الصمت متسائلة :

هل حقا يمتلئ قلبك بحبي ؟ وإن كان كذلك فلماذا ؟

في البداية انتابني القلق ونالت السخرية من حديثي قدرت حتي وجدتها أسقطت الملعقة وتنظر مليا في عيني ، فسألتها

" أحقا لا تعرفين؟ ، أحقا تنتظرين جوابا مني؟ ، أم أنك تشكين؟ وإن كان كذلك فهل تعرفين أن عقد قراننا بعد أسبوع من اليوم ؟ "

حل حينها الصمت ضيفا علي مائدتنا من جديد، وكأنه ضيف يثير النفوس والحمية في قلوبنا ، أطرقت أذناي عبارتها وهي تردد

" لا لم أشك يوما في مقدار الحب الذي تمتلكه في قلبك لي ، ولا أعرف لماذا تفلتت تلك الأسئلة من بين شفتاي "

.....................................................................

"آسية"

ربما في تلك الليلة وبين آشعة الشموع رأيت وللمرة الأولي قدر الخوف الذي يملأ عيني "زين".

لا أخفي شيئا أنا أحبه ، ومتيقنة من حبه كذلك ، ولكن هناك شيء بداخلي أخافه ولا أعرف ما هو ، لكني أخشي تجاهله ، وخلال مروري بنقاط التفتيش العقلية الحمقاء التي تملأني وجدت "زين" يحدثني ويقول

" إن كان ما بداخلك خوف أو قلق أو شيء من التوتر ، فسارعي بالقضاء عليه ، شاركيني تلك المخاوف والهواجس فنبددها سويا كما كنا طيلة سنوات ارتباطنا ، عزيزتي "آسية" نحن علي وشك الانتقال من مرحلة إلي مرحلة أكثر ترابطا ، لا نسمح فيها للمخاوف أن تعيث فسادا في خصوبتها ، إعلمي أني دوما أخشي عليك وأخشي فقدانك ، أخشي فقدان عيبا من عيوبك ، فحين تمسكت بكِ فكنت قد تمسكت بعيوبك قبل ما يزينك ، عزيزتي أنا بخير ما دام قلبك بخير ، اجعلي لقلبي من مخاوفك شريكا "

أصغيت لحديثه كما لم أضغي لحديث من قبل ، ازداد تشبثي به رغم مخاوفي ، زادت رغبتي في التخلص منها وأن أنفضها عن قلبي ، فقررت أن أبتعد عنه لمدة ثلاثة أيام ، قررت ذلك بداخلي ولم أعرف كيف سأخبره بذلك ، بالتأكيد إن أخبرته لن يحزن وسأجده داعما لقراري كما اعتدت ، ولكني لا أرغب ولا أدري سببا لذلك.

........................................................................

"زين"

انتهينا من الحديث علي ما يبدو وطلبت "آسية" الرحيل ، فلم أمانع ، لم يبلغ الفضول مني أن أستفسر عن ذلك ، فلطالما وثقت في حديثها ، وفي حين عودتنا للسيارة ، أخبرتها أنني من سيقود ، فوجدتها لا تمانع.

ظل الضحك والحديث الساخر رفيقا لطريق عودتنا ، وحين توقفنا عند بيتها أخبرتني بأنها ستغادر إلي ميلان صباحا ولمدة ثلاثة أيام ، فبلغ الفضول مبلغه تلك المرة مني ودنا الحلقوم فلم أستطع أن أتغاضي عنه.

فألقيت عليها استفساري ، فوجدتها تبتسم وقالت

" سأغادر لشراء بعض المستلزمات ، ولأكون ضيفة علي صديقة لي هناك تمر والدتها بحالة مرضية وطلبتني لجوارها يومين فلم أستطع أن أرد دعوتها ، فأنت تعلم أنها صديقتي المفضلة وأخبرتك عن إمكانية ذلك مسبقا"

كنت دائما أتساهل معها ، لقد كانت مدللتي.

........................................................................

"آسية"

أتي الصباح مدللا ، كنت قد أتممت حقيبة سفري ، اخترقت أذاني أصوات سيارة "زين" قابعة أسفل شرفتي ، لم يتحمل أن يتركني أذهب لمحطة القطار بمفردي، وسريعا ما طلبته ليحمل الحقيبة عني ، وتبادلنا أطراف الحديث الممتع بالنسبة لي ، لقد وجدت في حديثه ما راود شكوكي لتتراجع.

وحين بلغت السعادة أقصاها من صدري كنا قد وصلنا محطة القطار ، فصحبني حتي وضعنا الحقيبة واطمأن عليّ وودعني والقطار متحركا متجها مباشرة إلي ميلان ، لم يستفسر عن أية أسباب ، لكنه أخبرني قائلا "دوما أثق بك " ورحلت إلي مبتغاي وتركته مؤقتا.

وأطرقت الهواجس حينها رأسي ، وقيدت تفكيري وتملكتني ، أسندتها إلي نافذة القطار متفقدة الطبيعة التي تتحرك بجانبي لا أعرف تفاصيل الطريق بقدر معرفة اضطرابي ، طيلة ساعتين كنت مقيدة بالهواجس حتي وصل القطار محطته.

كان منزل صديقتي قريبا من المحطة ، وكانت في استقبالي ، ضممتها بشوق جففته الهواجس وبددته مخاوفي تجاه "زين" ، ولكننا سريعا ارتدنا منزلها ، وأرشدتني إلي غرفتي المخصصة.

لا أدري كيف أن البشر يتركون السواحل ويرتادون أطراف البلاد ليتخلصوا من هواجسهم ، ربما لا يفعل ذلك سوي من يسكنون السواحل مثلي.

........................................................................

"زين"

مر يوم ويوم ، والحال كما هو الحال، تخرج كل يوم إشاعات عن تفشي وباء في مدينة ميلان ، لا أحد يعلم مدي صحتها ، كنت أهاتف "آسية" في اليوم الأول فلم تخبرني بشيء من هذا القبيل ، واليوم التالي أخبرتي أن هاتفها قد كسر حين هاتفت صديقتها ، يومان يمران بلا أحداث سوي الملل والترقب ، وحين جاء اليوم الثالث كاد قلبي يستريح لعودتها ، ولكن المفاجأة الكبري كانت مباغتة ، لقد تلقيت ذلك النبأ العاجل من الإذاعة الرسمية.

لقد عزلت المدينة عزلا تاما ، قطعت وسائل المواصلات ، أغلقت خطوط السكك الحديدية المتجهة إليها، لا أحد يرتاد المدينة سوي المسؤلين من المستوي الرفيع خصيصا.

سريعا ما ذهبت مهرولا لمنزلها ، فلم أجد سوي عيني والدتها غارقة في الدموع ، وأبيها ذو الوجه البشوش عابسا .

أجرينا كافة الاتصالات بمن يمكنهم التواصل مع "آسية" ولا مجيب

انتهي اليوم ونحن جلوس ، ثلاثتنا لا يحرك ساكنا وقلبه ينفطر.

وباء ينتشر بسرعة البرق ولا مجيب ، العلماء حياري ، العلم يفقد سيطرته عن معرفة تركيب هذا الوباء ، يفقد قوته عن وضع مسمي للوباء ، الشعب يهرول إلي دور العبادة ، الأمهات تنتحبن ، الرجال يسقطون ، يسقطون ضحايا اليأس علي ذويهم.

الحكومة تتواصل بالبيانات العاجلة ولا فائدة ، تعلن يوما بيوم عن الضحايا.

نحن نترقب حتي أن نجدها من الضحايا، لقد ضاق بنا الأمر ، فلقد مرت خمسة أيام دون معلومة ولا تواصل

وإذا باليوم السادس يشرق من بعيد ، يشرق ويغرب في نفس اللحظة ، وزارة الصحة تعلن في بيانها الأول عن حالة وفاة جديدة مجهولة البيانات ، لكنها حقا "آسية"

هكذا أخبرتنا صورتها ، هكذا فشل صمود والدها أن يكابر لمدة أطول ، وانهارت والدتها بل قتلت علي وجه الحياة.

وأنا ، أنا من كان يستعد أن يحتفظ بطفلته المدللة بعد أيام ، من كان يأبي فقدانها ، ها أنت تفقدها ، ها هو الله يبعثها لجواره ، ربما هو كريما عني ، لكنه أفقدني قبل أني أمتلك ، ربما أن الصدمة ذاتها جعلتني أسقط علي الأريكة دون أن أحرك ساكنا.

وكالعادة الدولة لن تسمح بعودة جثمانها خوفا من تفشي الوباء وستصرح فور التعرف علي الجثمان بأن تعطيها للتراب دون أن نودعها أو نلقي عليها سلاما أخيرا ، وما ذكرته هو ما حدث بالفعل.

لقد أودعها الله للتراب الأسود ، يبدو أن ذاك التراب أحق بها.

يمر اليوم والأخر وتوالت الأيام ومرت الشهور والسنون ، انقضي الوباء دون أن نتعرف عليه ، أصبحت المدينة لا تعرف بغير الوباء ، تركها السكان وأصبحت مدينة متطرفة مهجورة ، إلا ممن يسكنها من الأموات ولازلت فخورا كوني أحد سكانها.


A
Ahmed Elsebai

هنا فتي يسطر حروفا حمقاء ، لم يكف عنها حيث لم تتركه الوحدة طيلة حياته💔

المزيد من الكاتب

هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين