هنا فتي يسطر حروفا حمقاء ، لم يكف عنها حيث لم تتركه الوحدة طيلة حياته💔
مداعبات في ممر الرياح
يوم عصيب من أيام الشتاء ، ينتاب زوجين ، جمعت بينهما قصة من قصص العشق المتفردة ، قصص العشق التي ألهبت صدور الكثيرين ، التي أصبحت مخلدة في القلوب.
هنا بمنزل لزوجين ، منزل بسيط متواضع ، لكنه شديد البنية مفتول القوام.
هنا آدم وحواء ، زوجين لا بحديثي الزواج ولا بزوجين عريقين ، لكنهما زوجين ، عفيفين ، ناضجين ، متواضعين ، والأجدر أنهما رحيمين متحابين.
هبت رياح الشتاء العاصفة بمنزلهما في هذا الصباح القارس ، ونالت منهما حديثا لم يكن ليناً ، جعلت منهما خصوما لدقائق معدودات ، وسرعان ما تدارك آدم ذلك الوضع المؤسف ، فانسحب صامتا ، معلنا انتصار حواء.
لكنها لم تر في ذلك انتصارا بل وجدته هزيمة حمقاء ؛ فهي لم تعتد أن تدع وثاق الكراهية والتعصب لينال منها ويقيدها هكذا ، وبفطرتها أيضا لم ترضَ لآدم انتصارا كهذا.
لكن آدم كان أكثر إدراكا لعقلها ولقلبها ولفطرتها ، فأخبرها بأن المباراة لم تنتهِ بعد ، ولكنه يطلب وقتا مستقطعا حتي المساء ، وحينها يعود كلاهما لاستكمال المبارزة.
ولا أخفيكم فمبارزة العشاق لا ينفرها قلب ، وتحاشيها ينهل منها ، وينخر فيها ؛ فيعيقها ويمرضها حيث يقضي عليها.
وسريعا ما تجاوز كلاهما ما حدث ، وذهب كلاهما إلي عمله ، وانتهي اليوم سريعا وحلت بهما ليلة أخري من ليالي الشتاء ، قارسة الأجواء ، محطمة الأهواء ، متضاربة تصيب العقلاء.
الساعة تدق التاسعة مساءً ، تلبدت السماء حينها بالغيوم ، وتلألأت بارقة مبهرة ، وصرخت راعدة منذرة ، متوعدة.
وهنا بشرفة المنزل يقف آدم يضع الطعام التي أعدته حواء علي الطاولة.
وهناك حواء في عرين الأنوثة تصنع قهوة وتنادي زوجها ، تطلب المساعدة في إعداد الطعام وتصفه كعادة أيامها القليلة الماضية بالمتخاذل ، تنادي حواء ولا مجيب ، فينتابها الغضب وتأتي باتجاه الشرفة فتجد من آدم ما يجعل من لسانها عاجزا ، ومن شفتيها مبتسمة ، وتعود محدثة قلبها بحديث وكلمات مغمغمة.
وعقب دقائق تعود بقهوتها الدافئة ، إلي حيث تكون الشرفة.
جلس كلاهما يتناولان طعام العشاء ، ساد طعامهما حديثا طيبا حتي نهايته ، ثم أقبلت حواء برأسها نحو آدم تخبره قائلة:
" يا عزيزي، ربما قد صدأ سيفي ، منذ الصباح وهو راقد في غمده ، لكن الرياح يا سيدي هائجة ثائرة ، وسيفي كما تعلم يأبي أن يكون هادئا هكذا ، أ فتسمح يا سيدي بأن أجرده الغمد وأشهره في وجهك "
يبتسم آدم ابتسامة نالت من قلبه وقلبها ، ولمعت عينيه وأقبل هو الآخر برأسه ، يقترب من رأسها ، حتي ارتطمت بها ارتطاما لينا ، وترتطم جبهتها بجبهته كذلك ، مجيبا إياها :
" فتاتي المحناة ، بصري وبصيرتي ، أما إن كان الحديث عن السيوف فإن المقاتلين يهبون سريعا ، لكن سيفي يبقي في غمده منكسا أمام سيف عدالتكم ، وأما الآن قلبي يتلهف لقطرات من قهوتك اللذيذة "
حينها تشخص حواء ببصرها وتسكب قدرا من القهوة في الكوبين ، وتضع بكوب آدم بين يديه، وحينها يسود الصمت الجلسة بينهما.
وكعادتها حواء ، بفطرتها العفوية ، تقبض علي شفتيها قائلة:
" عزيزي ، أما لصنمك الحديث؟ "
يضحك آدم ويجيب قائلا:
" ومنذ متي والدفاع يتفوه بحديثه والقاضي لم يصرح بعد ، أما أن المجني عليه في الأساس لم يتقدم بشكواه بعد ؟!!"
فأجابته حواء علي وجه السرعة:
" تعلم أنني دوما مضطربة ، ربما بعض الوقت لا أحسن الحديث ، وربما لا أجيد القيادة ، ولكن لقد دق الشيطان بابي وأنت بأفعالك لم تقاتله بعد "
فقاطعها آدم
" وبم يوسوس ذلك المرجوم ، ويملأ به جوفك ؟ "
حينها تتحدث مضطربة ضاحكة
" اتركنا من ذاك اللعين المرجوم ، فإنه لن يستطيع أن يُخلي بينا ، لكن يا حضرة القاضي جئتك أعاني قدرا من الإهمال ومن الغيرة ومن القلق ، أعاني قدرا من التعصب ، أري أن ذلك الجاني المتمثل في حضرتكم لم يعد يوليني اهتماما كما كان من قبل ، وها أنا جئت إليكم أشكو ذلك المتعجرف ، عديم الأصل "
هنا يبتسم آدم وتبرق عينيه ويقول:
" أما وأني أصبحت جانيا متعجرفا ، فكيف لكِ أن تأتين بابي محكما قاضيا ، أفلا تغفلين مكري وتعجرفي أم تأمنين عدالتي ؟"
كالبرق كان حديثها ، يبدو أنها لا تجهل داخله كذلك وتقول:
" ولم أخشي ذلك؟ ، فوالله يا حضرة القاضي لقد وليت إلي جواره عمرا فما وجدت موطنا من بعد أبي كموطنه ، ولا أمنا بعد أبي كمأمنه ، ولكنك يا قاضي العدل أهملت شكواي وأمطرتني قدرا من الغزل ، فهيا عد إلي رشدك أيها القاضي "
فرد قائلا:
" أصبت أيتها المدعية ، فلقد كان لزاما عليّ أن آخذه علي محمل الجد ، فلا بأس فها أنا ذا أجيب "
" حقا ، أحدثك أنا الجاني ، لقد نالت الحياة مني مؤخرا ، وتصدعت بي الطرق والممرات وتكسرت ، وتوالت الهموم، واشتدت قيودي حتي كبلتني ، كبلتني وحينها أسقطتني ، حاولت قدرا أن أخفي ذاك عنك ، حاولت ألا اكون سببا محزنا لك ، حاولت الخفاظ علي قلبك وعقلك صافيا نقيا ؛ لأعود إليه وأجده كما كان دوما ، أجده موطنا دافئا يكتنفني كما هو حال قهوتك ، وطيبا رحيما يهبني المودة كما هو شأن طعامك حتي في هذه الليلة لم تسلبي تلك المودة والرحمة منه.
معذرة يا فتاتي ، لكني خشيت محادثتك وكنت أنتظر أن تخاطبني الممرات والطرق بالرفض ، واليوم ها هي قد خاطبتني ، فلم أجد ممرا آخرا سواك ، ومعذرة أخري فإني أخشي أن أخبرك ، لكني أتيت باغيا دعواتك ، ومعتذرا لك ، فبطلك عاد حاملا راية بيضاء وما كان يود ذلك ، فعذرا"
حينها دمعت عيني حواء ، وبكت ، فاحتضنها آدم قائلا :
" يا طفلتي ، يا ذات عيني الغزال ، أما وأن دموع عينيك لو سقطت ببحر مالح لجعلت منه عذبا مقطرا فلا تحزني .
فهمت تقبله قائلة:
" أما وأن الله يأبي أن يراني حزينة ، أما وأنه قد رزقني رفيق درب يتسع له قلبي ، ويسعني قلبه ، أما وأن الجنة كل ليلة تراودني الثبات كي أكون رفيقة دربك فيها ، أما أنني الآن لا أطلب شيئا سوي قبلة أخري .
وإذا بالرياح تشد وتعتصر وسرعان ما أقبلت ممطرة وحينها
تبتسم حواء لآدم وتمطره وابلا من الدعوات ، ولا يكاد آدم يأمن خلفها، حتي أثلجته.
"فاللهم لا تحرمنا رفيق درب يرافقنا الثبات ، ويرافقنا الاستقامة حين الصراط ، ويرافقنا الجنة"
هنا فتي يسطر حروفا حمقاء ، لم يكف عنها حيث لم تتركه الوحدة طيلة حياته💔