التربية
مرت التربية عبر التاريخ الإنساني بأطوار ومراحل كثيرة ومختلفة، اجتهد خلالها المربون في تحقيق أهداف المجتمعات ضمن إطار العوامل المؤثرة: البيئية والثقافية والمدنية والاقتصادية وغيرها من المعطيات.. فالتربية قديمة قدم وجود الإنسان نفسه على الأرض، ففي المجتمعات البدائية لم تكن هناك مدارس على الإطلاق، فقد كان الأطفال يتعلمون من خلال خبرات القبيلة التي كانت تمارس يومياً حسب المواسم المناخية وأساليب الصيد والرعي والزراعة والحرف الأخرى. كما كان التعليم مرتبطاً بالطقوس والعقائد الدينية وأنماط العبادة السائدة، إضافة إلى خبرات القتال والدفاع عن النفس وحفظ البقاء..
وكانت الخبرات التربوية عملية وواقعية، وتنتقل شفاهة من المربين إلى الأولاد وعبر الأجيال المتلاحقة إلى أن اخترعت الكتابة، فابتدأ تدوين تلك الخبرات، وطفقت عمليات التطوير والتحسين تجري تباعاً على الأساليب والوسائل التربوية حسب تطور المجتمعات وأساليب عيش الأفراد وأنماط حياتهم، إلى أن ظهرت المدارس والمؤسسات التربوية المتخصصة..
والبحث في أصل المفاهيم اللغوية ليس ترفاً علمياً بل هو محاوله منهجية مشروعة ومهمة لفهم تطور مصطلح ما عبر تقاطعات الزمان والمكان، ومن المؤكد أن التوظيفات اللغوية تتغير مع الزمن، وهنا تبدو الأهمية الكبيرة لاستخدام الكلمة في سياقها وفقاً للمعنى، ومع ضعف المضامين التي نجدها لمفهوم التربية في اللغة العربية المعاصرة، فإن هذا لا يعفينا من العودة إلى أصل الكلمة الاشتقاقي ومقارنته مع الأصول اللغوية. [1]
ومنذ أن بدأ الناس يعيشون في جماعات، صار لكل جماعة منهم هدفاً في الإبقاء على أسلوبهم ونظامهم وطريقة معيشتهم. كما صار لكل جماعة منهم طريقة في الحفاظ على ذلك التراث ونقله إلى الأجيال اللاحقة. " ومن هنا جاءت عملية التكيف مع المجتمع والجماعة المحيطة مختلفة باختلاف الجماعات والأمم والشعوب، وهكذا جاء مفهوم العملية التربوية مختلفاً، لاتساع المفهوم وشموله وتشعب مباحثه ".[2]
وكلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وهي "مرتبطة بحركة التجديد التربوي في البلاد العربية في الربع الثاني من القرن العشرين؛ ولذلك لا نجد لها استخداماً في المصادر العربية القديمة".[3] ولقد اقتصر مفهوم التربية في الماضي على: " إكساب الجسم والروح أقصى ما يستطيعان بلوغه من الكمال أو تحقيق السعادة عن طريق الفضيلة الخالصة أو تحقيق فردية الإنسان إلى غير ذلك من المدلولات والمفاهيم التي كانت تطلق على التربية في العصور الماضية". [4]
ويجدر الإشارة هنا إلى أن معظم الكتابات في التربية لعلماء وأدباء السلف والخلف كانت غالباً مرتبطة بمرحلة الطفولة لا تتعداها. "فلفظ التربية فيما مضى يرتبط أولاً بمرحلة الطفولة، بينما لفظ التربية في الحقل التربوي يرتبط بجميع مراحل العمر التي يمر بها الإنسان".[5]
ويختلف المعنى الاصطلاحي لكلمة التربية من عصرٍ إلى عصر، ومن مكانٍ إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، فهناك تعريفات كثيرة للتربية تختلف باختلاف النظرة إليها عبر العصور والثقافات والبيئات المختلفة وتطور الاتجاهات الفكرية والعلوم الاجتماعية والأهداف المرسومة والنتائج المرجوة لكل مجتمع على حدة، إلا أن جميع تلك التعريفات تصب في بوتقة واحدة في النهاية بحيث تنطوي على أبعاد مشتركة بصورة كلية أو جزئية.
والاتجاه الحديث في التربية ينادي بأن التربية أوسع وأعمق بكثير من مجرد تحصيل المعرفة أو الوقوف على شيء من المعلومات الجديدة بالنسبة للطلاب، كما أنها أبعد أيضاً من مجرد امتلاكهم لبعض المهارات والتدريب عليها، أو تكوين شيء من الاتجاهات سواء أكانت سالبة أم موجبة. " إن المفهوم الشامل للتربية تتكامل فيه كل هذه المعارف والمهارات والاتجاهات والأفكار.. لتساهم في بناء شخصية المتعلم، وليصل تأثيرها على آرائه ومواقفه التي يتخذها حيال القضايا التي تعرض له أو يعرض لها ".[6]
وهذه النظريات والاتجاهات الحديثة في شمولية واستمرارية التربية وجهت المفهوم العام للتربية في نهايات القرن المنصرم إلى ظهور ما يسمى بمفهوم "التربية مدى الحياة"، أو ما يعرف بالتربية المستديمة أو التربية المستمرة، والتي يمكن أن تعرف بأنها: "جميع الطرق والأساليب التربوية المتوافرة للإنسان منذ طفولته الباكرة وحتى نهاية حياته والتي تهدف إلى تمكينه من تطوير شخصيته وتحقيق ذاته ".[7]
فمفهوم التربية الاصطلاحي للتربية كما يراه الكاتب: هو عملية مستمرة لنقل مجموعة معارف ومهارات وقيم من الملقي إلى المتلقّي، لإعداده ذهنياً ونفسياً وعقلياً، لإنتاج سلوكيات وأفعال تساعد الفرد على العيش والعمل والاندماج وسط المجتمع.
فكانت التربية العربية قبل الإسلام تهدف إلى تربية الأفراد من خلال مساعدتهم على اكتساب النماذج السلوكية والعادات والقيم الاجتماعية السائدة والمعلومات التي كان العرب يعتبرونها أموراً أساسية وضرورية لحياتهم اليومية. إلا أنه: " مع نزول الوحي على الرسول الكريم ﷺ، ومع ظهور الدعوة الإسلامية وانتشار الدين الإسلامي، فقد تأثر مفهوم التربية بشكل جوهري، خاصة وأن الدعوة الإسلامية تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وهي أسمى أهداف التربية وأساليبها ".[8]
فصدرت التربية عن الإسلام وقد اكتسبت أكمل وأشمل المعاني والقيم التي تعنى بالإنسان من مولده وحتى مماته. فقد ظهر مفهوم جديد للتربية لم تألفه البشرية من قبل وهو: مفهوم التربية الإنسانية الشاملة والمستمرة، منهاجها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وبذلك فقد اكتسبت التربية الإسلامية بعضاً من الخصائص تفردت بها عن غيرها وهي:
- إعداد الإنسان المؤمن الصالح كي يتعرف إلى ربه ويلتزم بتعاليمه ويكسب رضاه.
- الدعوة إلى تحقيق التوازن بين حياة الفرد الدنيوية وحياته في الآخرة، فهي تربية دينية ودنيوية في آن واحد.
ومن تعريفات التربية الإسلامية أنها تهدف إلى تنشئة وتكوين إنسان مسلم متكامل من جميع نواحيه المختلفة: "من الناحية الصحية والعقلية والاجتماعية والاعتقادية والروحية والأخلاقية والإرادية والإبداعية، في جميع مراحل نموه، في ضوء المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام، وفي ضوء أساليب وطرق التربية التي بينها".[9] وهي التنمية الشاملة لجميع جوانب شخصية الإنسان: في النواحي الجسمية والعقلية والإيمانية والروحية والخلقية والاجتماعية والنفسية والإرادية والجنسية والجمالية، في ضوء ما جاء به الإسلام، "حتى يكون الإنسان عابداً لله وحده، عبودية تحقق له الفوز بالدنيا والآخرة، وتجعله عنصراً خيراً في بناء مجتمعه وإسعاد البشرية".[10]
فالتربية الإسلامية من وجه نظر الكاتب هي ذلك النظام المنهجي الشامل المتكامل الذي يهتم بالفرد بجميع مراحله العمرية، ويعنى بكل جوانب شخصيته وأبعادها المختلفة من حيث المبادئ والأهداف والغايات، المنبثقة من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتقوم بتنظيم علاقة الفرد مع من حوله من الأفراد والجماعات في منظومة اجتماعية فريدة، لمحاولة الوصول إلى درجة الاستخلاف في الأرض - التي أرادها الله تعالى للإنسان - وحسن التمكين فيها، والتي تحقّق التقدّم والرقي والسعادة للفرد والأسرة والجماعة.
وتشكل التربية الإسلامية منظومة تربوية متكاملة ومتوازنة، شاملة وجامعة، عامة ومستديمة، تقوم على أرقى الأصول والمبادئ من التجدد والمرونة والحرية والانفتاح والأصالة والوسطية. فلم تعرف فلسفة ولا نظرية ولا شريعة - قبل الإسلام أو بعده - حوت كل تلك المعاني والأهداف والغايات والمبادئ التربوية، والتي تشكل الأساس لتربية صحيحة سليمة، تعنى بسعادة كل من: الفرد والأسرة والجماعة والأمة، وتهدف إلى تشكيل أفضل العلاقات فيما بينها، وما ذاك إلا لأنها من لدن حكيم عليم، يقول في كتابه العزيز:﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك:14].
فالإسلام هو المنهج الرباني المتكامل، المواتي لفطرة الإنسان، والذي أنزله الله لصياغة الشخصية الإنسانية صياغة متزنة متكاملة، وليجعل منها خير نموذج على الأرض، يحقق العدالة الإلهية في المجتمع الإنساني، ويستخدم ما سخر الله له من قوى الطبيعة، استخداماً نيراً متزناً، لا شطط فيه ولا غرور، ولا أثرة ولا استئثار، ولا ذل ولا خضوع، "ولما كنا قد رأينا كيف أخفقت الجهود التربوية، والمدارس التربوية الحديثة، والفلسفات التربوية الغربية، في إنقاذ الطفولة والإنسانية من ظلم القرون الأوربية الوسطى وظلامها في أوربا، بل نقلتها من الظلم والظلام إلى الدمار والضياع وإلى الميوعة والاضمحلال، فكانت البشرية في ذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، لما كان ذلك كله تبين أن التربية الإسلامية أصبحت ضرورة حتمية وقضية إنسانية". [11]
د. بشار القهوجي
[1] . أبو زيد، 2008م، 6.
[2] . ناصر، 1989م، 13.
[3] . مرسي، 1993م، 48.
[4] . ناصر، مرجع سابق، 14-16.
[5] . يونس، 1999م. 42.
[6] . الدريج، 1990م، 11.
[7] . جرادات وآخرون، 2008م، 152- 155.
[8] . جرادات وآخرون، مرجع سابق، 25.
[9] . عبود، 1977م، 151.
[10] . القاضي، 2004م، 22.
[11] . النحلاوي، 2004م،21-22 .