Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
أ

مدة القراءة: دقيقة واحدة

غلاة الوطنية

بات مفهوم الوطنية الآن في ظل حفلة التخوين التي تقودها مجموعات مشبوهة يفقد دلالته، لا يدل مفهوم الوطنية على حب الوطن والولاء له، بل أصبح صكا تمنحه هذه الجماعات لأفراد قلائل يشاركونها ذات الحفلات التخوينية. فليس يكفي الآن أن تقر بولائك للوطن وقيادته، ولكن يجب أن تظهر عداءك الشديد لجماعات ودول وشخصيات كانت قبل سنوات قليلة مرحبا بها من الدولة نفسها، وربما لا يشفع لك هذا أيضا ما لم تخون كل شخص ثبتت خيانته عندهم، عملا بالقاعدة الشرعية المشهورة "من لم يكفر الكافر فهو كافر" إذ حولوها إلى : "من لم يخوّن الخائن فهو خائن". ولا يفوتنا التنويه عن التشابه الشديد بين غلاة الدين وغلاة الوطنية لكن هذا موضوع آخر لم أرد الحديث عنه هنا . نشأ مفهوم المواطنة ابتداءً ليعالج إشكالية التعدد والاختلاف والتضارب بين معتقدات الناس وآرائهم ورغباتهم، فإذا لم تكن ثمة مصلحة مشتركة ومبدأ عام يتفق عليه أفراد المجتمع سينتهي هذا الاختلاف إلى تنازع وتعارك واحتراب. فالمواطنة هي الغطاء العام الذي يستوعب هذه الاختلافات ويخفف من غلوائها. بات هذا المفهوم مع غلاة الوطنية يعمل على عكس وظيفته . فالتحريض والترهيب وإشعال الفتن بين الناس أصبحت تمارس باسم الوطنية، فالوطنية التي تحث على التضامن وتعزز قيم التآخي باتت أداة تفريق ونبذ بيد هؤلاء الغلاة .

إن سلاح التخوين الذي يشهره غلاة الوطنية في وجوه الجميع مبنيٌّ على فهم غير منضبط لتهمة الخيانة . فالخيانة كما هو معلوم هي تمني الشر للوطن ومحاولة الإضرار به والوقوف ضد مصالحه .

لكن غلاة الوطنية لديهم مفهوم آخر للخيانة، فالخيانة بحسب رأيهم تعني أن كل من يختلف مع أيٍّ من سياسات الحكومة القائمة فهو خائن، بل يصل الأمر إلى أن يكون السكوت أو عدم إظهار التأييد الكافي لبعض الممارسات الحكومية خيانةً مكتملة الأركان. إن هذا الفهم يعني بلا شك أن أغلبية الناس سيطالهم هذا التخوين، لأنه لا يوجد أو لا يمكن أن يوجد أصلا مواطن يوافق على كل سياسات حكومته. فالحكومات تتغير سياساتها بحسب مصالحها وبحسب من يديرها فما تعتقده في الأمس لا ترضاه اليوم، وما تراه اليوم قد ترفضه في الغد. فحتى الذي يبني موقفه بحسب موقف الحكومة ثم يصرح بهذا قد يأتي يوم ويتهمه هؤلاء الغلاة بأنه خائن لأن الحكومة غيرت سياستها القديمة وتبنت سياسة جديدة. وهذا واقع فعلا مع ظاهرة نبش التغريدات القديمة لتجريم آراء كانت تتفق مع رؤية الدولة في وقت ما ولم تعد كذلك الآن . إن كل إنسان عاقل وحر له مبادئ وقناعات مستقلة عن النظام الحاكم ولا بأس في هذا ما لم يتحول هذا الاختلاف إلى الإضرار بالوطن ككل والإساءة له ولشعبه.

ليس مطلوبا من المواطن أن يكون نسخة مكررة من حكومته، إن قلنا بهذا فنحن نطلب منه أن يعطل عقله ويسير بلا عقل ولا رأي. وهذا عدا عن كونه مستحيلا فهو ليس في صالح الوطن ولا الحكومة أيضا. حين ندرب العقل على التسليم المطلق ونفرض عليه رأيا واحدا لا يحيد عنه فنحن هنا نقضي على هذا العقل ونعطله ومن هنا نقضي على أهم أداة تقوم عليها نهضة الدول، إن العقل هو أساس الإبداع والإنتاج والنهضة، والاستثمار بالعقل هو الاستثمار الناجح والمستدام، وتعطيل العقل يعني بلا شك تعطيل مسيرة التقدم. أما الحكومة التي لا تستمع إلا إلى رأي واحد الذي هو رأيها في الأساس تفوت على نفسها جملة من الحلول والاقتراحات التي من الممكن أن تساهم في تصحيح المسار وتصويب الرؤية. إن فتح باب النقاش للجميع وتحرير الفضاء العام من غلاة الوطنية وسلوكياتهم واجب تصب فائدته على الحكومة والشعب والوطن ككل.


هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين