Oktob
مدونين جددالأكثر مشاهدةأحدث المقالات
أ
أحمد خالد

مهندس

مدة القراءة: دقيقة واحدة

فارس الظلام (٤)

مديرية الأمن .. مكتب المقدم حازم .. يوم الأحد .. بعد الحادثة بثلاثة أسابيع .. الواحدة ظهراً 

جلس المقدم حازم في مكتبه يفكر في تفاصيل تلك القضية وما توصل إليه الدكتور رشاد بدران من نتائج حتى كاد عقله أن ينفجر .

( أثناء تشريحي لجثة عصام شكيت في حاجة فعملتله تحليل دم .. لقيت رواسب لمحلول غريب .. بنثوال الصوديوم .. بيدخل الجسم وبيروح مباشرة للمخ وبيسبب تعطيل لوظائف المخ المتقدمة زي القدرة على التفكير والإبتكار وإتخاذ القرار .. تنويم مغناطيسي .. عصام منتحرش .. في حد قتله .. إزيك يا حازم باشا كنت مستنيك .. في حد قتله .. حضرتك سمعت عن المرحوم سعيد صفوان .. في ليلة من الليالي جت له فكرة عبقرية، فكرة خلته يصحي أخويا الكبير إسلام ويقعد معاه ساعتين يكتبوها في ورقة مسطرة .. مافيش آثار لدفع أو مقاومة .. في حد قتله .. الهدف ما كانش بس القتل، الهدف كان سعيد صفوان .. سعيد صفوان وبس يا باشا .. مكنش في وعيه لما إنتحر .. الخطة عشان تمشي صح لازم أموت، لازم القاتل يختفي وميفضلش غير الكتاب، الكتاب وبس .. إفتح كتاب أبوك وإقرأه ولما ييجي الوقت لازم تكمل المشوار .. بنثوال الصوديوم .. في حد قتله )

قطع تلك الحروب في عقله صوت النقيب (أشرف عباس) حين طرق على الباب ودخل

المقدم حازم : تعالى يا أشرف خير في حاجة ولا إيه ؟!

النقيب أشرف : في حاجة غريبة سعتك، في دار نشر كبيرة أوي طبعت كتاب فارس الظلام ونشرته، وفيه إقبال كبير أوي من الناس عليه لدرجة إنه وصل لحد دلوقتي بعد أسبوع من نشره بس للطبعة ٢٥ !!

المقدم حازم : طب وإيه الغريب في كدة، كل ده كان متوقع وده كان الهدف من كل اللي حصل من جرائم !!

النقيب أشرف : لا يافندم مش قصدي، مش ده الغريب، الغريب إن مافيش حاجة مكتوبة عن جرائم القتل في الكتاب، القصة كلها بتتكلم عن فارس الظلام وبس !!

المقدم حازم :  إيه اللي إنت بتقوله ده ؟! هات الكتاب كدة وريني !

فتح المقدم حازم الكتاب وبدأ يقرأ :-

                                 مقدمة

" يخطأ المرء ويعتذر فيعتقد أنه هرب من الجزاء، لكنه سرعان ما يدرك أنه يسير نحوه بخطى ثابتة، لقد أجرمت وحان وقت العقاب "

                   البروفيسور كريشوف

المقدم حازم مخاطباً نفسه في عقله : الجملة والإسم ده مش غريب عليا أنا سمعتها فين قبل كدة !!

منزل المقدم حازم .. يوم الأحد .. بعد الحادثة بثلاثة أسابيع .. التاسعة مساءاً

صوت طرقات الباب .. إفتح يا حازم باشا .. أنا محروس البواب. 

المقدم حازم بعد أن فتح الباب : خير ياعم محروس، في حاجة ولا إيه ؟!

محروس البواب : أنا أسف يا باشا إني بزعجك بس لما شفت عربية سعتك تحت قلت لازم أطلع أديلك الظرف ده.

المقدم حازم : إيه الظرف ده ياعم محروس ومين اللي جابهولك ؟!!

محروس البواب : أنا معرفش يا بيه، كل اللي حصل إن النهاردة الصبح وسعتك مش موجود فيه عيل صغير جه وقالي الظرف ده للمقدم حازم في الدور الرابع، ولما ييجي إدهوله ضروري وسابلي ٥٠ جنيه اكرامية !

المقدم حازم : طيب ياعم محروس تسلم إتفضل إنت !

جلس المقدم حازم في شرفته وهو ينظر للظرف الأبيض والذي كتب عليه بخط أنيق : (يسلم للمقدم حازم عبد الحميد فهمي باليد)، ثم بدأ بفتح المظروف من جانبه حتى لا يمزق ما بداخله، تماماً كما يفعل مع خطابات البنوك التي تأتيه أول كل شهر، وما إن نجح في فتحه حتى سقطت منه صورة بلا ألوان من طرف المظروف لأربعة رجال يرتدون ملابس شتوية ثقيلة، لا بل ثلاث رجال وإمرأة، أحدهما يرتدي نظارة عريضة من طراز كان شائعاً في سبعينات القرن الماضي، وأخر له لحية ثائرة بمظهر ليس مصري، وأخر يرتدي معطف ثقيل وله شارب وشعر مجعد، أما المرأة فتظهر منها خصلة شعر من أسفل قلنسوتها الصوفية وتمتلك تلك الملامح الجميلة التي تجعلها أقرب لأن تكون واحدة من فاتنات السينما في ذلك الوقت، وأسفل الصورة كتب بخط عربي أنيق وقديم يشبه تماماً الخط الذي كتبت به الجملة فوق المظروف :

البروفيسور كريشوف .. الدكتور عبد الحميد .. الدكتور معتز .. الدكتورة نوال

وجد مع الصورة خمس صفحات من الورق الذي يشبه ورق طباعة هذه الأيام، خشن وثقيل طبع عليه كلمات بخط كومبيوتري واضح ومنسقاً بعناية، عدل المقدم حازم من وضعية جلوسه وكأنه يستجمع كل تركيزه وبدأ في القراءة :-

" إبني الغالي / حازم

إسمح لي أن أناديك بنفس النداء الذي تحب أن أناديك به ولو لمرة أخيرة، فالله وحده يعلم إن كانت رغبتك في أن أظل أناديك بهذا النداء ستبقى بعد أن تقرأ هذه الكلمات أم لا ..

منذ أن بدأ هذا الأمر وأنا أقاوم رغبة داخلية قوية تسيطر على جزء كبير مني في أن أدق بابك في يوم لأضع بين يديك كل شئ، لعلك تغفر لي وتتفهم دوافعي التي دفعتني إلى هذا الفعل، هذا الفعل الذي أملك دوافعي القوية المبنية على قناعات قد لا تفهمها الآن وربما تستوعبها فيما بعد وربما لا، فأحياناً يصادف الإنسان القدر الذي لم يريده وهو يسير في الطريق الذي اختاره لكي يهرب منه، وحتي لا أطيل عليك دعني أبدأ لك الحكاية من الصفر أو إذا شئنا الدقة من تحت الصفر .. 

الإتحاد السوفيتي .. ديسمبر ١٩٦٩ .. جامعة بطرسبرج

في نهايات عام ١٩٦٩ سافرت في بعثة إلى جامعة بطرسبرج في الإتحاد السوفيتي للحصول على رسالة الدكتوراة، كنت شاباً يافعاً في نهاية العشرينات حاصل على ماجستير في الأمراض النفسية، والذي كان يدور حول تطور السلوك النفسي للمجتمع بعد ثورة يوليو، كان بحثاً مليئاً بالنفاق الصريح للسلطة، كتبت كلمات فخمة عن مجتمع العدل والمساواة الذي قلت فيه الأمراض النفسية المجتمعية وأصبح مجتمعاً شبه فاضل تملأه روح التعاون والصدق والمحبة .. إلخ هذا الهراء،  وذلك بعد أن طلب مني مشرفي أن أمسح من رسالتي أي شئ يتعلق بمجتمع كان أفراده يقولون سعيدة يا هانم فأصبحوا يقولون صباح الخير يا عسل، مجتمع كان يحاسب الشاب إذا إبتسم لفتاة لا يعرفها ليتحول إلى مجتمع لا يعاقب حتى شاب تحرش بفتاة في أتوبيس النقل العام بحجة أن الدنيا مزدحمة !

تم قبول البحث بنجاح وحصلت بعده على درجة الماجستير بتقدير إمتياز مع مرتبة الشرف، وكنت أصغر من حصلوا على هذه الدرجة في دفعتي كلها، ولك أن تتخيل أنه تم ترشيحي لبعثة للإتحاد السوفيتي من ضمن خمسة حاصلين على الماجستير من مختلف الكليات من جامعة القاهرة، خمسة كان من بينهم والدك ( الدكتور عبد الحميد فهمي ) المعيد بقسم الكيمياء الحيوية بكلية العلوم جامعة القاهرة، والذي أصبح فيما بعد أخي وصديقي ورفيقي.

وما إن حطت الطائرة في مطار بطرسبرج حتى لفحني هواء ديسمبر البارد، هواء جمد أنفي وأطرافي بل وحنيني للحظات دافئة تحت شمس القاهرة، وهناك قابلته أنا ووالدك للمرة الأولى .. رجلٌ قصير القامة شديد الذكاء ذو لحية رمادية ثائرة تعبر عن رجل قوي الشخصية وعبقري التفكير، إنه كريشوف البروفيسور بجامعة بطرسبرج والمسؤول عن إستقبال الطلاب العرب القادمين لدراسة الدكتوراة في روسيا، وذلك لمعرفته شبه الجيدة باللغة العربية، دخلنا إلى مكتبه المتواضع في المباني التاريخية للجامعة، جلس وهو يرتدي نظارته المستديرة وبدأ يقرأ في أوراق مترجمة لرسالتي، إبتسم بعد أن أنهاها ثم تحدث بلغة روسية باردة كبرود تلك السماء التي تمطر ثلجاً منذ أن وصلنا، فقلت له بلغة إنجليزية : عفواً يا سيدي فأنا لا أعرف من الروسية إلا القليل، حينها إبتسم أكثر وحدثني بالعربية وقال : كلكم هكذا أيها المصريون تأتون إلى بلادنا ولا تعرفون من لغتنا إلا القليل ثم تتحدثون بإنجليزية لا تجيدونها جيداً أيضاً، حسناً لقد كنت أقرأ في رسالتك إنها لا بأس بها برغم شعوري أنك مرغم على كتابتها بهذا الشكل، بناء الرسالة قد أعجبني ولكن عندي بعد الملاحظات وسأخبرك بها بعد الغداء، حتى لا تقولوا أن البروفيسور كريشوف لا يعرف كيف يكرم ضيوفه، كما أنني أريد أن أعرفكم على شخص ما أعتقد أنكم ستسعدون برؤيته.

أمسك بالهاتف وراح يطلب رقماً وتحدث معه بكلمات إنجليزية وآخرى روسية، إلا أنني ميزت فيها إسماً لن أنساه طوال حياتي .. ( نوال ) .

ظللت أدور بعيني متفحصاً الغرفة، رأيت صورة له مع أعضاء الحزب الشيوعي، وصورة آخرى له مع أبرز زعماء الإتحاد السوفيتي، ظللت أتفحص جوانب الغرفة مبتسماً حتى حضرت الشمس إليها فلا يصح أن تذهب عيناك لأحدٍ غيرها .. إنها نوال، جسد ممشوق لا تخفي الملابس الثقيلة تناسقه، وعينان خضراوتان ساحرتان، شفتان يحيطان بأجمل فم رأيته في حياتي، وخدان يحتجان إلى أشهر أطباء التشريح في العالم ليوصفوا لنا دقتهم التشريحية في جمال تكوينهم، وشعرٌ أشقر لو بيعت خصلته بالجرام لحولت تلك المرأة إلى أغنى أغنياء الأرض.

وجاءت الدكتورة نوال وعرفنا عليها البروفيسور كريشوف وأخبرنا أنها تقوم بتحضير دكتوراة هنا في الجامعة في مجال السموم، وأنها تعتبر واحدة من أفضل الطلاب العرب هنا في الإتحاد السوفيتي، ومرت الأيام وأصبحنا أصدقاء مقربين جداً، نقضي ثلاثتنا الكثير من الوقت معاً، أنا والدكتور عبد الحميد والدكتورة نوال، وما أجملها من صحبة، وإن كنت أخبرت نوال ذات يوم بأني أكن لها المشاعر، ولكنها كانت دائماً تقول أنها لا تفكر في هذا الموضوع الآن وتركز في دراستها للدكتوراة، وأنه يجب أن نكون أصدقاء فقط، فرضيت بتلك الصداقة وقتها حتى لا أبتعد عنها.

وفي أحد الأيام الدافئة وسط شهر مايو حدث شئ غير حياتنا كلها بعدها للأبد، يومها إستدعى البروفيسور كريشوف ثلاثتنا بشكلٍ عاجل إلى معمله لأول مرة، كان معملاً جباراً وكبيراً جداً، مليئاً بأجهزة متطورة في ذلك الوقت، وأقفاص تحتوي على حيوانات تستخدم في التجارب، يومها شرح لنا البروفيسور كريشوف تجاربه وما كان يفعله طوال ثلاثين عاماً، بدأ عمله في هذا المعمل منذ أن كان شاباً في نهاية العشرينات، لن أحدثك عن تفاصيل علمية قد لا تهمك كثيراً، ولكن ما كان يقوم به البروفيسور ببساطة هو أشبه بعملية تطهير للفاسدين في المجتمع السوفيتي، وذلك دون أن يعرف أحداً أنه يقوم بذلك بطريقة ذكية لا تكشف صاحبها، حينها أخبرنا البروفيسور أننا عاجزين عن الرد بأي شئ لعرضه الكريم في أن نعمل معه في معمله، فكلنا كنا سنعود إلى مصر بعد عامين أو ثلاثة بعدما ننتهي من رسالة الدكتوراة، ولكنه قال : من أخبركم أنني أريدكم أن تستكملوا شيئاً هنا، أنا لم أقصد ذلك والأمور هنا لم تعد كما في السابق تبشر بالخير، الكثيرون يبحثون الآن عن تفسير لتلك الأمور الغريبة التي تحدث في المجتمع، وأعتقد أن نهاية هذا المعمل قد إقتربت، ولكني لا أريد أن تكون نهايته الآن فالعالم في طريقه للأسوأ، أريد أن أنقل هذا المعمل وتجاربه إلى مكان أخر وبيئة أخرى تمنحه بعض الحرية حتى يستطيع أن ينمو ويكبر ويتطور، سأعلمكم كل شئ أعرفه فلن أجد أفضل منكم ليطور هذا العمل وينميه، طبيب نفسي ودكتور كيميائي وخبيرة سموم .. ثم أمسك بأيدينا وكأنه يستعطفنا حتى أن نظرته العبقرية تحولت إلى نظرات شفقة من عجوز يوشك على الموت، فأومئنا جميعاً برأسنا على الموافقة، فراح يرقص فرحاً وكأن الحياة دبت فيه من جديد.

كل يوم كان يمر علينا في ذلك المعمل كنا نكتشف عالم أسود مظلم عبقري، أي فلسفة وفكرة عبقرية قادت ذلك المجنون ليصل إلى ذلك الإبداع، هل تتخيل يا حازم أن فكرته وتجاربه هذه لو إستمرت كيف سيكون حال العالم، تخيل معي عالم بدون كذب أو نفاق أو سرقة أو ظلم، عالم من الكمال والفضيلة لا يوجد فيه خطأ واحد .. ما هذه الروعة !!

مرت السنوات ونحن نحاول الوصول لقمة الإجادة لكل ما يفعله البروفيسور، كل أساليبه وكل تقنياته العبقرية، حتى جاء ذلك اليوم حين دخلنا المعمل ووجدنا البروفيسور ملقى على وجهه مقتولاً، حينها أصابنا الفزع والرعب، حملنا كل ما يمكن أن نأخذه معنا وعدنا إلى مصر في أسرع وقت ممكن، قضينا شهورنا الأولى ونحن نحاول أن نقنع أنفسنا أن ما رأيناه حلماً ولا يمت بصلة لعالم الواقع ولو بشئ قليل، كان قد حصل كل واحد منا على درجة الدكتوراة من هناك بفضل علاقتنا الجيدة بالبروفيسور كريشوف والذي ساهم في ذلك بشكل كبير، حقاً الإنسان لا يستطيع أن يعيش في أي مكان بدون علاقات، فلولا العلاقات لما أصبحت أنا ووالدك دكتوران كبيران، ولا أصبحت أنت المقدم حازم.

مرت الأيام وهدأت حياتنا تدريجياً، تزوجت زوجتي ولكن الله لم يرزقنا بأبناء كما تعرف، رحت أمارس مهنتي التي أجيدها، أستاذ الطب النفسي في الجامعة صباحاً وطبيب نفسي في العيادة مساءاً، تزوجت نوال بقربيها الذي كان يحبها كثيراً، وعملت بمنصب كبير في مركز السموم، تزوج والدك من والدتك وصار مع الوقت أستاذاً ورئيساً لقسم الكيمياء في كلية العلوم، راحت سنين عمرنا تتساقط مع تساقط شعيرات رأسنا، كنا نجتمع كل فترة ونتحدث عن أحوالنا وأحوال المجتمع ونتحدث عن ما حدث لنا، حتى جاء ذلك اليوم الذي حدثنا فيه والدك عن قطعة الأرض التي كان يدخر فيها كل نقوده من أجل أن يؤمن لك مستقبلك، وعن ذلك الرجل الذي ضحك عليه وزور في الأوراق ليأخذ تلك الأرض ويبني عليها مشروعاً عقارياً كبيراً، وحدثتنا نوال عن إبنتها الجميلة التي إرتادت كلية التجارة حتى تدير شركة والدها، ولكنها تعرفت على ذلك الشاب الحقير الذي ضحك عليها وأغواها، ولم تتحمل البنت ذلك وماتت مقهورة، وأخبرتهم أنا بكل أسفٍ عن الحادثة التي ماتت بسببها زوجتي رحمها الله وهي في طريقها لزيارة أهلها في طنطا.

مرت الأيام أكثر وأكثر وبدأت فكرة البروفيسور كريشوف تستيقظ في عقولنا مجدداً،  هذا العجوز يستحق أن نحقق أمنيته ونطور من تجاربه، ولن نجد فرصة أفضل من الإنتقام، الإنتقام وتطهير المجتمع من هؤلاء الفاسدين الذين ينحدرون بنا لأسفل، أخبرني يا حازم هل ترى في هذا المجتمع شيئاً يستحق أن يبقى، هل تراه خالياً من تلك العيوب التي تحدث عنها البروفيسور يوماً، إن هذا المجتمع يحتاج إلى تطهير عاجل، تطهير يسمع عنه الجميع، فربما إنصلح شئ فيه أو ربما لا، لا يهم فنحن سنكون قد حققنا وصية البروفيسور وحققنا إنتقامنا، أعلم أنك لن تقتنع ولن تفهمني يا حازم، إذاً دعني أكمل لك وأكشف لك الأوراق ربما أكون قد فعلت شيئاً جيداً قبل أن أرحل من قلبك للأبد.

بدأنا نطور من أفكار البروفيسور، فوالدك قام بتطوير مصل الحقيقة (بنثوال الصوديوم) والذي كان يستخدم قديماً في الإتحاد السوفيتي في إستجواب المجرمين، فحين يحقن الإنسان بتلك المادة تسير في الدم وتتجه مباشرة إلى المخ وتسبب تعطيل لوظائف المخ المتقدمة مثل القدرة على التفكير والإبتكار وإتخاذ القرار، وبالتالي فإنك لا تستطيع التلاعب والكذب حين يسألك شخص عن شئ، طور والدك من هذا المركب فأضاف إليه بعض العناصر والإضافات التي جعلته يسبب ضعف في التحكم بالأعصاب والعضلات، ليصبح من يحقن به كالدمية تستطيع أن تحركه كما تشاء أو بمعنى أوضح كالنائم مغناطيسياً يفعل ما يؤمر به، ومع وجود مخدر قوي فإن تلك المادة تتفاعل معه ويختفي أثرها من الجسم فلا يكتشفها أحد، أما الدكتورة نوال فقد طورت نوع من السموم يشبه سم عنكبوت الأرملة السوداء ولكنه أقوى منه، حين يحقن الإنسان به يموت في ثواني معدودة، وأما أنا فكنت أمتلك ميزة كبيرة قد طورها أكثر البروفيسور كريشوف، فأنا أعلم النفس البشرية حق معرفة وأعرف كيف أتعامل معها جيداً.

كان كل شئ يسير بشكل رائع حتى توفي والدك فجأة بسبب ضعف قلبه، فبعد حادثة الأرض التي زورت أورقاها وأخذت منه رغماً عنه، أصيب والدك بأزمة قلبية حادة ومن يومها وهو يعاني بسببها حتى رحمه الله وتوفاه، توقف كل شئ بعدها وأصبنا بالإحباط والفشل، كل الخطط التي وضعناها قد إنتهت بوفاة والدك، فقدنا الأمل في أن نحقق إنتقامنا وأن نحقق وصية البروفيسور كريشوف.

مرت السنوات وكل شئ عاد طبيعياً كما كان في البداية، حتى جاء ذلك اليوم في نهايات ٢٠١٧، جاءني (عصام سعيد) في ليلة باردة من ليالي ديسمبر، دفع أجرة الكشف في العيادة وطلب أن يقابلني، كان رجلاً في منتصف الأربعينات محبطاً كما بدى لي من أول وهلة، ولكنه كان راضياً بكل ما في حياته من إحباطات بعد أن تبادلت معه عدداً من الأسئلة، إجابات ذكية ومنطقية لدرجة أنني تعجبت، إن مثل هذا لا يحتاج إلى طبيب نفسي أبداً !!

الدكتور معتز : ما شاء الله يا أستاذ عصام، يعني شغلك البسيط التافه في مصنع الأدوية زي ما بتقول واللي مالوش علاقة بمؤهلك مش مدايقك في حاجة، وإنك عايش في شقة صغيرة من غير زوجة ولا أولاد وإنت في السن ده مش مدايقاك برده.

عصام : الحمد لله يا دكتور نعمة من عند ربنا غيري مش لاقيها.

الدكتور معتز : طيب كويس جداً، إنت بالنسبة لي مكتمل الصحة النفسية وراضي عن حياتك جداً، معلش أعذرني في اللي هقوله وبدون أي مجاملة، إنت مشرفني هنا في العيادة ليه النهاردة، يعني لو حضرتك مقرأتش اليافطة اللي بره على الباب كويس، فا أحب أقولك إن دي عيادة نفسية مش عيادة باطنة. 

نظر عصام إلي بهدوء وهو يرسم على شفتيه ضحكة ساخرة فغضبت ثم أردفت قائلاً له : هو حضرتك بتضحك على إيه يا أستاذ عصام أنا مش فاهم ؟!

عصام : بضحك على الدكتور النفساني اللي أول مرة يقابلني ويتعصب، أنا لسه مقلتش حاجة يا دكتور ومش ده اللي جاي لحضرتك عشانه، إهدى يا دكتور إذا سمحت وإسمعني للآخر.

الدكتور معتز : طيب يا سيدي أديني هديت أهه ممكن توضح بقى حضرتك جاي ليا ليه !!

أخرج عصام من جيبه ذلك الكتاب المهترئ ذو الغلاف المصنوع من الجلد الصناعي المحفور عليه إسم (فارس الظلام) وإسم آخر لم أسمع به من قبل في حياتي (سعيد صفوان) .

الدكتور معتز : إيه الكتاب ده ومين سعيد صفوان ده أنا أول مرة أسمع عنه ؟!

عصام : هي دي مشكلة حياتي اللي أنا مش لاقي ليها علاج يا دكتور، مفيش أي حد سمع عن سعيد صفوان ده لحد ما فلس وإفتقر ومات بحسرته، ببساطة يا دكتور الكتاب ده سبب تعاستي طول عمري.

سرق إنتباهي وإهتمامي قليلاً فقلت له : ممكن توضح أكتر يا عصام أنا عايز أسمعك ..!

عصام : ببساطة يا دكتور إبراهيم صفوان ده يبقى والدي ..

وراح يحكي لي قصته التي أخبرك عنها وأخبرتي أنت بها على القهوة، حكى لي عن حلمه المريض وعن وصية والده وشقيقه إسلام التي تنغص عليه حياته، وعن هروبه من كل شئ في هذه الحياة حتى وصوله إلى مركزه في شركة الأدوية، وعن كل علاقاته التي كونها، وعلى ما يقدر أن يقوم به بحكم وظيفته والسلطات التي أصبح يمتلكها في يده، في هذه اللحظة فقط ذهبت بعقلي إلى البروفيسور كريشوف، وشعرت أن فكرته إستقيظت مرة آخرى في عقلي، إن والدك يستحق أن ننتقم ممن كان السبب في حسرته التي مات بسببها، وإبنك الدكتورة نوال تستحق أن ننتقم لموتها، وزوجتي أيضاً كذلك، وذلك العجوز كريشوف يستحق أن تتحقق وصيته، لقد كانت فرصة جاءتني على طبق من ذهب لا يقدر على رفضها إلا معتوه، تلك الفكرة التي هدأت ونامت في أعماق عقلي تستيقظ الآن طالبة النجاة من النسيان .    

إجتمعت مع الدكتورة نوال وبدأنا ننسج خطتنا، الآن معنا عصام الذي يريد أن يفعل أي شئ من أجل أن يجعل هذا الكتاب مشهوراً، سنجعله يكتب في كتابه بنفس خط والده كيف ستتم الجرائم، وسنجعله ينفذ جرائم القتل كما جاءت مكتوبة بإستخدام تقنية البروفيسور كريشوف التي طورناها، مما يجعل الجميع يشعر أن هذا الكتاب ملعوناً لكل من يقرأه وبالتالي سيصبح مشهوراً وسيتكلم عنه الرأي العام كله، وإذا سقط يوماً في قبضة الشرطة سيكون مجرد مجنون ينفذ ما جاء في كتاب والده المتواضع الموهبة ليجعله مشهوراً بعد أن مات بحسرته، هذا سيكون دافعه لإرتكاب تلك الجرائم، فكرة جميلة رحت ألعب على أوتارها وأعزف فوق أصابعها أجمل السيمفونيات.

كانت فكرتي أن ننتقم لوالدك أولاً ونبدأ برجل الأعمال الفاسد (علي عبد الله السيد)، ذلك الرجل إحتال على والدك وطلب منه أن يشتري الأرض التي يملكها بملغٍ بخس ولكن والدك رفض، فقام بتزوير الأوراق وطعن في عقد بيع والدك وحكمت له المحكمة بأحقيته في الأرض، كم من شخص مات مقهوراً بسببه غير والدك، وكم من شخص ضاع تعبه وماله الذي جمعه طوال حياته، يجب أن نخلص المجتمع من أمثال هؤلاء، يجب أن يعلم الجميع أن تلك ستكون نهاية الأوغاد، راح عصام يراقبه حتى علمنا كل شئ عن تفاصيل حياته، رسمنا خطتنا جيداً حتى يقوم عصام بنتفيذها، وضع عصام له الكتاب في منزله كما وضع له بنثوال الصوديوم مع أقراص الترامادول الذي يتناولها يومياً، ثم قرأ عليه الكلمات التي تجعله يصبح منوماً مغناطيسياً :-


" أصوات طبول الحرب تأتي من بعيد في لحن تصاعدي منسق، تصحبها أصوات نفير مكتومة تعلن أن الوحش قد جاء ليبسط سلطانه على الوجود.

إنه الظلام ..

الوحش الأقوى والأكثر شهرة بيننا، الوحش الذي كنت تهرب منه بالنوم حين كنت صغيراً، تغلق عينيك الصغيرتين حتى تعتصر جفنيهما ظناً منك أنك تختفي منه وتهرب، ليس عليك أن تهابه الآن، أغلق عينيك فهذا ظلامٌ آخر، ظلامٌ يمنحك الثبات، يمنحك السكينة، شعور عميق بأنك عدت إلى رحم أمك وتخلصت من تلك اللحظات السوداء التي مرت في حياتك، لحظة خسارتك لحب أول فتاة، لحظة خسارتك لأول نقود تمتلكها في صفقة فاشلة، لحظة وفاة والدك، لحظة أن وجه لك مديرك في العمل أول إهانة لك.

كل هذا تنساه هنا في رحم الظلام لتُمنح تلك القوة، القوة التي تجعلك تُخرج مخاوفك المريضة وأشباحك القديمة وتفتح عينيك على إتساعهما لترى الحقيقة، الحقيقة التي ظل نور الفجر يخفيها ويُجملها حتى ظنناها كذلك، ظن كل منا أنها صافية وواضحة لكنها دائماً ما تمارس معنا تلك اللعبة، فلا تكشف عن نفسها إلا لمن يريد فقط أن يعرفها على حقيقتها.

الحقيقة .. تلك الكلمة التي مهما ظننت أنك تعرفها يوماً لن تعرفها، ستبقى هناك مختبئة خلف ستار صلب، ستار ينتظر من يزيحه ليعرف، لكنها معرفة لا تنفع أحداً سواه، تماماً كتلك المعرفة التي سأنقلها لك الآن، فقط لتدرك بعدها أنها لن تنفع أحداً سواي "


بعد ذلك قام عصام بجعل عنكبوت الأرملة السوداء الذي أحضرته الدكتورة نوال يلدغه في قدمه ثم حقنه عصام بالسم الذي حضرته أيضاً الدكتورة نوال في رقبته ومات، حتى يعلم الجميع أن السبب ليس جريمة قتل بل ما جاء في ذلك الكتاب القديم الملعون.

كذلك الأمر بالنسبة لذلك الشاب الحقير (سامي محمد الدريني)، ذلك الشاب الذي يضحك على الفتيات ويقوم بإغوائهن، تماماً كما فعل مع إبنة الدكتورة نوال، كم من فتاة ضحك عليها ونسج عليها خيوط الحب والغرام والزواج، كان يغوي الفتيات بوسامته وسيارته الفخمة التي يغيرها أول كل عام وماله الكثير الذي يمتلكه من والده، ولكنه كان شاباً فاشلاً يتعاطى المخدرات ويشرب الخمر، تخيل معي شاب مثل هذا لو آلت إليه ثروة والده كلها بعد أن يموت ماذا سيفعل، سيغلق المصانع ويشرد الموظفين وسيبدد تلك الأموال في ملذاته وشهواته، أمثال هؤلاء أيضاً يجب أن نتخلص منهم، ظل عصام يراقبه فترة طويلة، عرفنا كل تحركاته وعرفنا تلك الشقة الصغيرة التي يذهب إليها ويقوم فيها بكل ملذاته وشهواته، وضع عصام له الكتاب وجهز جرعة من المحلول مع الترامادول الذي يتعاطاه، ثم قرأ عليه الكلمات حتى أصبح منوماً مغناطيسياً، فطلب منه أن يقوم إلى الشرفة ويرمي نفسه منها، حتى يكون عبرة لأمثاله.

كلهم يستحقون ذلك فلا تأسف عليهم، (علي عبدالله السيد) .. (سامي محمد الدريني) .. حتى ذلك السائق (إسماعيل نشأت) كان مثلهم يستحق، هذا السائق المتهور الذي كان سبباً في وفاة زوجتي، لم يكن في وعيه حينها كان مخدراً، فدهسها بالسيارة اللوري الضخمة وماتت، ولكنه خرج منها سليماً، حيث زور في نتيجة تحليل المخدرات، وإتخذ من مرض نقص الصفائح الدموية الذي عنده حجة، فأثبت أنه كان مصاباً وقتها بجرح وأغمى عليه فلم يكن في وعيه حين دهسها، وظهر الحادث كأنه قضاء وقدر، وذلك ما فعلناه معه جعلناه في غير وعيه عندما قام بعمل تلك الجروح بنفسه وأغمى عليه ومات مختنقاً من الغاز، قضاء وقدر أيضاً، أتعلم أنه من كثر تناوله للترامادول لم يكن سيؤثر عليه المحلول كثيراً فوضعنا له نسبة كبيرة جداً، تخيل معي كم روح أزهق هذا السائق وسوف يزهق بتهوره وتعاطيه المستديم للترامادول، وفي كل مرة سوف يجد ألف طريقة يهرب منها من العقاب، كل من أخطأ عليه أن يعاقب كما كان يقول البروفيسور كريشوف جملته الشهيرة دائماً " يخطأ المرء ويعتذر فيعتقد أنه هرب من الجزاء، لكنه سرعان ما يدرك أنه يسير نحوه بخطى ثابتة، لقد أجرمت وحان وقت العقاب ".

ثم بعد ذلك ظهرت أنت في قلب الأمر، لماذا إختاروك أنت من دون كل ضباط المباحث، شعرت أن هناك قوة ما ترفض أن أستكمل حلمي وهدفي بتطهير ذلك المجتمع من هؤلاء الفاسدين، حتى جاءت الدكتورة نوال تخبرني أنك حصلت على صورة لعصام وسوف تقبض عليه، حينها مارست لعبتي التي أجيدها بشدة في النفس البشرية، جعلت عصام يعتقد أن القاتل يجب أن يموت حتى يصبح الكتاب مشهوراً، يجب أن يظهر للجميع أنه هو المخطط والمنفذ، ولابد أن يكون هو صاحب مشهد النهاية، بل ويجب أن يكون مشهد النهاية مشهداً عظيماً، لقد كان ينتظركم هناك، إنتظركم وأتيتم كما أراد، ولأني خفت أن يقع بالكلام أمامك، قمت بوضوع له المحلول في عصير البرتقال الذي يحب أن يشربه كثيراً، ووضعت له في أذنه سماعة صغيرة لن يلحظها أحد والتي إنتزعتها من أذنه الدكتورة نوال في المشرحة قبل أن يقوم الدكتور رشاد بدران بتشريحه، ولأن دائماً لا توجد جريمة كاملة، لم يعطي المخدر أي أثر أمام عصير البرتقال، فحين يقوم الدكتور رشاد بدران بتحليل الجثة سيجد المحلول وسيعرف كل شئ، كان علي فقط أن أخفيه قليلاً حتى أكسب بعض الوقت، أتعلم عصام أيضاً كان يستحق الموت، هذا الرجل كان مستعد لأن يفعل أي شئ من أجل حلمه حتى لو سيقتل ألف روح، المجتمع الذي يحتوي على هؤلاء الناس الذين يفعلون أي شئ حتى ولو كان خاطئاً ليحققوا غايتهم مجتمع غوغائي.

أعلم الآن أنك سوف تحرك مشاعرك نحو كراهيتي ولومي، ولكني أفترض فيك ذكاء أعرفه جيداً، وأعرف أنك لن تقدم هذه الأوراق إلى أي جهة رسمية وإلا إتهموك بالجنون والتخريف وربما طلبوا مني علاجك، كما أنك تعرف الآن أنني لست في روسيا وأن الدكتورة نوال أيضاً ليست في مركز السموم حالياً، نحن في مكان لا تعرفه ولا تبحث عنا، والآن أنت تعلم الحقيقة الكبرى، الحقيقة الذي لم يخبرك بها والدك، الحقيقة التي رأينها وصدقناها وأمنا بها، ربما لو كنا في زمن أخر لقدم لنا وسام على ما فعلناه، وقمنا بتدريس فعلتنا هذه في الجامعات والمدارس، لكننا الآن في زمن مريض، زمن ينحدر بنا أكثر وأكثر، زمن تحول  من صباح الخير يا عسل إلى صباح الجمال يا مزة مروراً بي صباح الفل يا بت، زمن إمتلأت فيه السينمات بأفلام قذرة تلقي بكل قذارتها في عقول من يشاهدونها، تخيلت لو كان البروفيسور يعيش بيننا الآن، لما كفاه أن يفجر قنبلة نووية في قلب هذا المجتمع، ويلتقط من نجا منها ليكونوا نواة مجتمع جديد، مجتمع خالي من الظلم والفساد، مجتمع لا يوجد فيه سوى الفضيلة والكمال .. "

وهنا سقطت الأوراق من بين يدي حازم، وسقطت معها تلك الدموع التي إحتبست في داخله من الصدمة، أحياناً يكون من الأفضل أن تظل مغفلاً ساذجاً لا تعلم شيئاً عن الحقيقة، لكن الحقيقة دائماً ما تمارس معنا تلك اللعبة، فلا تظهر عن نفسها إلا من يبحث عنها ويريد أن يعرفها حقاً، وياليتك ما بحث عنها وما عرفتها يا حازم ..


                          ( النهاية )



 


هذه التدوينة كتبت باستخدام أكتب

منصة تدوين عربية تعتمد مبدأ البساطة في تصميم والتدوين